مقالات

بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري منتصف القرن التاسع عشر

الحلقة الخامسة

مدخل

استعرضنا في الحلقة السابقة كيف سعت بريطانيا إلى تحويل مصر إلى منتج للقطن الذي تحتاجه لصناعة المنسوجات، وضغطها على سعيد باشا من أجل التوسع في زراعته، وفي هذه الحلقة نستكمل ما بدأناه؛ نستعرض ما تم بخصوص الزراعة عمومًا، ثم نعرج على التجارة.

بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري:

ثانيًا- الزراعة عمومًا:

أما من ناحية الاقتصاد بشكل عام والزراعة بشكل خاص فكانا موضع اهتمام الدولة العثمانية، ففي أوائل شهر ربيع الآخر سنة 1271هـ (ديسمبر 1854) صدر “القانون الهمايوني”، وسرى على مصر سريان “خط كلخانة” الصادر سنة 1839.

وكان القانون موجهًا للاهتمام بالاقتصاد، فحدد مهام مديري الأقاليم في حفظ النظام بأقاليمهم، والعمل على رفاهية الأهالي وعدم الإضرار بمصالحهم،

والنهوض بالبلاد وتعميرها عن طريق الاهتمام بالزراعة وإجراء توزيع المياه منعًا للتعدي على حقوق الفلاحين، واتباع قواعد العدل في جمع الأنفار للأشغال العامة، وأن يكون ذلك في غير أوقات الحصاد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كان على المديرين وجميع حكام الأقاليم طبقًا لهذا القانون الاهتمام بشؤون الموازين والمكاييل على اختلاف أنواعها، وعدم استغلال سلطاتهم أو الاختلاس من الأموال الأميرية، ومنع جور المشايخ والصيارفة على الفلاحين وأخذهم الأموال الزائدة منهم، وقطع دابر اللصوص وقطاع الطرق.

حالة القانون الهمايوني

أوجب القانون على المديرين الاهتمام بالشؤون الاقتصادية في أقاليمهم فيما يختص بشؤون الزراعة والتجارة وسائر المعاملات(1).

وفيما يتعلق بملكية الأراضي الزراعية فكانت في عهد محمد علي مثقلة بالأعباء الضريبية، مما أدى إلى ترك الفلاحين أراضيهم وضياع حقهم في ملكية هذه الأراضي، إذ هجرت عائلات بأكملها عددًا كبيرًا من القرى، وكانت الدولة تقوم بإعادة توزيع هذه الأراضي على أصحاب الطلبات الجدد.

واستمر الهروب من الأرض في عهدي عباس وسعيد، وكان من أهم أسبابه عدم القدرة على زراعة الأرض وسداد الضرائب، وحينما ألغى عباس نظام العهدة كان لزامًا على الفلاحين سداد المتأخرات من الضرائب التي تراكمت في عهد المتعهدين الذين تهاونوا في تحصيلها، وبالتالي اضطر عدد كبير من الفلاحين إلى ترك أراضيهم في البحيرة.

لائحة 19 أبريل 1856

الاقتصاد المصريفي عام 1855 ترك الفلاحون في الشرقية والدقهلية أراضيهم، وازدادت الأحوال سوءًا عند صدور لائحة 19 أبريل 1856 لإعادة تقدير الضرائب على أراضي الخراج، وكان هذا هو أول تغيير منذ سنة 1824،

فازدادت بموجبها نسبة الضريبة على الأراضي المتوسطة الخصوبة والقليلة الخصوبة من ربع إلى ثلث المحصول، وبالتالي التمس كثير من الفلاحين السماح لهم بترك أراضيهم وأجيبوا لطلبهم.

ألغيت في عهد سعيد حقوق استرداد الفلاح لأرضه التي تركها. ولم يكن القانون الذي صدر في عهد محمد علي يحدد مدة الملكية، فحددها سعيد بمرحلتين،

ففي عام 1854 حددت مدة الحيازة بخمسة عشر عامًا بعدها يسقط حق الفلاح في الحيازة، كما صدرت تعليمات لشيخ البلد بإعطاء من ثلاثة إلى خمسة أفدنة لكل من يعود إلى أرضه حتى هذه المدة.

لائحة السعيدية أغسطس 1858

ثم كانت اللائحة الشهيرة باللائحة السعيدية الصادرة في 24 ذي الحجة سنة 1274هـ (5 أغسطس 1858)، تلك اللائحة التي نظمت شؤون الملكية واعترفت بها.

وكان مما جاء فيها واشتمل على الحقوق، كالآتي:

1- إذا توفي شخص عن أرض فإنها تؤول إلى بيت المال، إلا إذا كان هناك ورثة فإنهم يقتسمونها بنسبة الميراث الشرعي، وعلى شرط أن يكونوا قادرين على زراعتها وعلى دفع خراجها المقرر عليها وإلا فإنها تؤول إلى بيت المال.
2- من وضع يده على أرض خراجية لمدة خمس سنوات على الأقل وكان يؤدي ما عليها من خراج أصبح مالكها بدون منازع، بشرط أن يحسن زراعتها، ولا يجوز نزع ملكيتها إلا لمصلحة عامة.
3- يجوز لأصحاب الأراضي الخراجية رهنها وتأجيرها بعقود تتراوح مددها بين سنة وثلاث سنوات قابلة للتجديد، كما يجوز لهم التصرف فيها بموجب حجج شرعية.
4- تصبح الأراضي ملكًا للفلاح إذا أقام عليها أبنية أو حفر بها سواقي أو غرس فيها أشجارًا، بشرط أن يتم ذلك بعد صدور هذه اللائحة.

أصبح للفلاح بمقتضى هذه اللائحة الحق في امتلاك الأراضي الزراعية بعد أن كان محرومًا من هذا الحق. وتعتبر هذه اللائحة أساس التشريع المتعلق بملكية الأطيان في مصر.

اقرأ أيضاً:

الحلقة الأولى من المقال

الحلقة الثانية من المقال

الحلقة الثالثة من المقال

الحلقة الرابعة من المقال

أهم إصلاحات سعيد باشا

ورأى سعيد أن يتمم فائدة هذه اللائحة بإلغاء نظام احتكار الحاصلات الزراعية التي كانت على عهد محمد علي، فأصبح للفلاح بذلك الحق في التصرف في حاصلاته وحرية اختيار أنواع الزراعة التي يريدها(2).

ومن أهم إصلاحات سعيد باشا إلغاء ضريبة الدخولية، التي كانت تُجبى على الحاصلات الزراعية والمتاجر عند انتقالها من قرية إلى قرية وعند دخولها إلى المدن.

وكانت الحكومة تتقاضى عن المتاجر نحو 12% من قيمتها عند دخولها المدن، وفي هذا إعنات للأهالي فضلًا عن أنه كان عقبة في سبيل رواج التجارة واتساعها، وهذا إصلاح آخر ولكنه أدى إلى عجز في الميزانية العامة.

ولم تكن العوائد التي تُحصل على ما يباع في الأسواق على نسق واحد، ففي بعض الجهات كانت تؤخذ العوائد على أشياء لا تؤخذ عنها في جهات أخرى،

كما كانت العوائد على الشيء الواحد مختلفة المقدار بالنسبة لاختلاف الجهات. ولذلك وضعت الحكومة في عهد سعيد لائحة لتلك العوائد، حتى تسير على نمط واحد.

ثالثًا- التجارة:

الاقتصاد المصري

فعلى صعيد التجارة الداخلية نجد أنها نشطت في مصر نتيجة لعدة عوامل، منها إلغاء الاحتكار والقيود التي كانت مفروضة على الإنتاج، وكذلك للتقدم الكبير في وسائل النقل وتنظيم عمليات نقل المسافرين والبضائع.

أما التجارة الخارجية والتي تتمثل في الصادرات والواردات، فنجد أن حجم التجارة الخارجية ازداد زيادة كبيرة، ففي الفترة من سنة 1850 إلى سنة 1861 ارتفعت قيمة الصادرات من 2,435,579 جنيهًا إلى 3,422,959 جنيهًا.

ويرجع ذلك إلى اشتداد الطلب على القطن المصري بعد اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية كما سبقت الإشارة إليه.

وبالنسبة للواردات خلال نفس الفترة، فلوحظ أنها حققت زيادة مناسبة، فبعد أن كانت قيمة الواردات 1,621,369 جنيهًا سنة 1850 أصبحت قيمتها 2,568,539 جنيهًا سنة 1861.

صادرات وواردات مصر من 1850 إلى 1861

ومن أهم صادرات مصر خلال تلك الفترة: القطن وبذرته، القمح في بعض السنوات، والسكر، والفول، والذرة، والصوف، والكتان، والحلبة، والزعفران، والصدف، والسلامكي، وبعض المنسوجات، والحبال الصوف، والنطرون، والأفيون، والشمع، إضافة إلى سن الفيل وريش النعام من السودان.

أما الواردات فكانت: المنسوجات، والأثواب الحريرية، والسجاد، والطرابيش، والفحم، والأخشاب، وأدوات البناء، والحديد، والنحاس، والآلات، والأواني، والمجوهرات، والعقاقير(3).

سيطرة الأجانب على شؤون البلاد التجارية

وفي الإطار الاقتصادي أيضًا سمح سعيد بإنشاء شركات أجنبية، وجدير بالذكر أن الشركات التي كانت موجودة قبل ذلك كانت صغيرة وتسير على أنظمة شركات التضامن أو التوصية البسيطة أو الشركات الخاصة، أما الشركات التي أُنشئت في عهد سعيد فكانت شركات مساهمة تتميز برؤوس أموالها الكبيرة.

كان من آثار ذلك: الوقوف في سبيل إنشاء الشركات المصرية، تلك التي لا تستطيع المنافسة أمام الشركات المساهمة الكبيرة. كذلك كان من نتائج إنشائها سيطرة الأجانب على شؤون البلاد التجارية، وكانت هذه السيطرة تامة تقريبًا على شؤون المصارف التجارية.

وكانت معظم الشركات شركات بنوك أو شركات حصلت على امتياز لتنفيذ عمل من الأعمال ذات المنفعة العامة، مثال النقل وتوزيع المياه، ومن أمثلتها “بنك أوف إيجبت”، “شركة مياه الإسكندرية”، “شركة سكة حديد الرمل” بالإسكندرية(4).

وفي الحلقة القادمة –إن شاء الله– نستعرض ما فعلته بريطانيا لإجهاض المشروع الصناعي المصري ضمن خطتها لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري.

يتبع ..

المصادر

([1]) زين العابدين شمس الدين نجم: إدارة الأقاليم في مصر، مرجع سابق، ص ص 147-148.

([2]) صلاح أحمد هريدي: دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر (1220هـ/1805م – 1300هـ/1882م)، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط1، القاهرة، 2000، ج2، ص ص 251-252.

([3]) المرجع السابق، ص ص 257-262.

([4]) محمد فهمي لهيطة: تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1944، ص ص 228-231.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمد محمد عبدالحميد

مهندس برمجيات – مدير مشروعات – حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث