الناتج المحلي الإجمالي والمستقبل الأخضر.. بين الواقع والمأمول!
في هذا المقال نتحدث عن ظاهرة في منتهي الخطورة، أصبح العالم في الآونة الأخيرة يعاني كثيرًا من آثارها بشكل واضح وجلي للجميع ونلمسه كلنا في حياتنا، وهي ظاهرة التغير المناخي، وكذا التعرض إلى كيف بدأت دول العالم وبما فيهم مصر محاولات للحد من آثارها والتكيف معها.
يعتبر تغير المناخ من القضايا الهامة في عصرنا، فالآثار العالمية لتغير المناخ واسعة النطاق ولم يسبق لها مثيل من حيث الحجم، من تغير أنماط الطقس التي تهدد الإنتاج الغذائي، إلى ارتفاع منسوب مياه البحار التي تزيد من خطر الفيضانات الكارثية، إذ ارتفعت كميات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي إلى مستويات قياسية لم تشهدها منذ ثلاثة ملايين عام.
كما أنه هناك اتفاق عالمي في الأوساط العلمية، وكذا بين المسؤولين الحكوميين، على أن الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى ما لا يزيد عن 1.5 درجة مئوية سيساعد على تجنب أسوأ التأثيرات المناخية والحفاظ على مناخ صالح للعيش، إلا أنه تشير السياسات المعمول بها حاليًا إلى ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 2.8 درجة مئوية بحلول نهاية القرن.
في إطار الاهتمام العالمي بالتنمية المستدامة، إذ تعد الهدف الأسمى الذي تسعى الدول لتحقيقه، بدأ الاهتمام بمصطلح الاقتصاد الأخضر الذي يعد أحد النماذج الجديدة للتنمية الاقتصادية السريعة النمو، ويقوم أساسًا على المعرفة الجيدة للبيئة، التي من أهم أهدافها معالجة العلاقة المتبادلة بين الاقتصاديات الإنسانية والنظام البيئي الطبيعي، كما يروج للاقتصاد الأخضر بقدرته على إنقاذ الاقتصاد العالمي من مرحلة طويلة من الركود وفقدان الوظائف وتفاقم الفقر، فالانتقال للاقتصاد الأخضر له مبرراته الاجتماعية والاقتصادية، لذلك تحرص الدول والحكومات ومختلف القطاعات إلى “تخضير” القطاعات الاقتصادية الأساسية لتحريك التنمية الاقتصادية.
ما هو الاقتصاد الأخضر؟
الاقتصاد الأخضر التحول من أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدام إلى أنماط أكثر استدامة، تتمثل في الحفاظ على التنوع الإيكولوجي، وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والحفاظ على الموارد الطبيعية وحق الأجيال القادمة.
كما عرّف برنامج الأمم المتحدة الاقتصاد الأخضر بأنه الاقتصاد الذي ينتج عنه تحسن في نوعية الحياة، وتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية، وتجدر الإشارة إلى أن الاقتصاد الأخضر يمثل الأداة العملية التي تساعد في الوصول لتنمية مستدامة ولا يعتبر بديلًا عنها.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد والاعتدال
مجالات الاقتصاد الأخضر
هناك مجالات أو مكونات أساسية للاقتصاد الأخضر، تتمثل في كل من:
- الطاقة الجديدة والمتجددة: وتشمل مصادر الطاقة المتجددة نوعين:
- الطاقة المتجددة التقليدية: طاقة الكتلة الحيوية.
- الطاقة المتجددة الجديدة (طاقة الرياح، الطاقة المائية، الطاقة الشمسية، طاقة حرارة الأرض الجوفية).
- العمارة الخضراء: النمط الحديث من العمارات التي تحافظ على المياه في ضوء محدودية الموارد المائية، وتقلل من استهلاك الطاقة الكهربائية في ضوء ازدياد الطلب على الطاقة.
- النقل المستدام: يشير إلى أية وسيلة نقل ذات تأثير منخفض على البيئة، وتعزيز أنماط الحياة الصحية، ويطلق على النقل والتنقل الأخضر عدة مسميات: النقل المستدام ووسائل النقل الخضراء واللوجستيات الخضراء واستدامة النقل، وجميعها مصطلحات تحمل نفس الدلالة.
- إدارة المياه: الإمداد بالمياه العذبة بالجودة والكمية المطلوبتين من الخدمات الأساسية للنظام الإيكولوجي، التي لا يمكن التعامل معها إلا بالاستثمار في البنية التحتية وإصلاح السياسة المائية، وذلك بتخضير قطاع المياه، إذ إن ندرة المياه المتنامية يمكن التغلب عليها بسياسات تزيد في تحسين موارد المياه وكفاءتها.
- تدوير المخلفات: تعد إعادة التدوير من أهم وظائف إدارة النفايات في إطار الاقتصاد الأخضر، وإعادة التدوير المصدر الأسرع نموًا لفرص العمل الخضراء.
- الزراعة المستدامة: يعد تبني مفهوم الاقتصاد الأخضر من الأهمية بمكان لتخضير القطاع الزراعي، عبر تعزيز المناهج التعليمية ودعم سبل المعيشة في الريف ودمج سياسات الحد من الفقر في استراتيجيات التنمية، وتكييف التكنولوجيات الزراعية الجديدة للتخفيف من الآثار الناجمة عن تغير المناخ، إلخ.
- مجال السلع والمنتجات: نتيجة لإدخال مفهوم الاقتصاد الأخضر في الأنظمة العالمية الجديدة، أصبحت هناك معايير بيئية عالمية يجب توافرها في السلع والمنتجات للدخول والمنافسة في الأسواق.
ما المؤشرات الأساسية لقياس الاقتصاد الأخضر؟!
التركيز على أربعة مجالات (مؤشرات) تصف الملامح الرئيسية للنمو الأخضر، تتمثل في:
- البيئة والموارد الإنتاجية: لتعكس الحاجة إلى الاستخدام الكفء لرأس المال الطبيعي والخدمات البيئية، ولتدمج جوانب الإنتاج –التي نادرًا ما تُقاس– كما في النماذج الاقتصادية وأُطر المحاسبة.
- الأصول الاقتصادية والبيئية: لتعكس حقيقة أن تدهور قاعدة الأصول يشكل خطرًا على النمو، ولضمان النمو المطرد لا بد من الحفاظ على قاعدة الأصول.
- الجودة البيئية للحياة: لرصد الآثار البيئية المباشرة على حياة الناس عبر –على سبيل المثال– الحصول على المياه والآثار الضارة لتلوث الهواء.
- الفرص الاقتصادية والاستجابات السياسية: للمساعدة في التحقق من فاعلية السياسة في تحقيق النمو الأخضر وأماكن الآثار والفرص المتاحة للنمو.
اقرأ أيضاً: اقتصاد بالألوان
كيف يُمول الاقتصاد الأخضر؟
اتجه العالم لتمويل النمو الأخضر (الاقتصاد الأخضر) بما يسمى بالسندات الخضراء، وقد بدأت سوق السندات الخضراء عام 2007، والسند الأخضر صك استدانة يصدر للحصول على أموال مخصصة لتمويل مشروعات متصلة بالمناخ أو البيئة وفقًا لبيانات البنك الدولي وتعريفه، وكذا تعرف السندات الخضراء: بأنها أي نوع من السندات التي تُستخدَم المبالغ الناتجة عن طرحها لتمويل (بشكل كامل أو جزئي) المشاريع الخضراء أو إعادة تمويلها، الجديدة أو القائمة مسبقًا، وهي نوع من أدوات الدين ذات الدخل الثابت شبيهة بأدوات الدين التقليدية، لكن أموالها تخصص للاستثمار في مشروعات المحافظة على البيئة ومكافحة التغير المناخي.
باستقراء بيانات قيم إصدارات السندات الخضراء على مستوى العالم خلال الفترة (2007-2020)، اتضح أنها تراوحت بين حد أدنى بلغ نحو 0.414 مليار دولار عام 2008، وحد أقصى بلغ نحو 280 مليار دولار عام 2020، كما يوضحها الشكل التالي، وبلغ متوسطها خلال تلك الفترة نحو 75.46 مليار دولار.
تطور السندات الخضراء على مستوى العالم بالمليار دولار خلال الفترة (2007-2020)
كما تجدر الإشارة إلى أن مصر أصدرت أول سندات خضراء لها في سبتمبر 2020 بقيمة 750 مليون دولار، وذلك لتمويل المشاريع الخضراء في مجال “منع التلوث ومكافحته، الإدارة المستدامة للمياه ومياه الصرف الصحي، النقل النظيف، قطاع الكهرباء والطاقة المتجددة” وتحقيقًا لرؤية 2030.
تعد هذه السندات الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ويبلغ العائد عليها 5.2%، وقد بلغت تغطية هذا الطرح نحو 5 أضعاف حجمه، إذ وصلت قيمة طلبات الشراء من المستثمرين إلى أكثر من 3.8 مليار دولار، كما أعلنت مصر ممثلة في الهيئة العامة للرقابة المالية –بتاريخ 30 يونيو 2021– موافقتها على أول إصدار من السندات الخضراء للشركات في مصر بقيمة 100 مليون دولار للبنك التجاري الدولي (CIB) مصر، بالتعاون مع مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، بحيث تُوجَّه حصيلة الإصدار لتمويل مشروعات بيئية من شأنها استعمال الطاقات النظيفة، والتخفيف من العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض في عدد من المشاريع الخضراء القائمة، بما في ذلك المباني الخضراء والطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة ضمن محفظة الإقراض للبنك.
هذا كله يؤكد على اهتمام الدولة منذ سنوات عدة بمجال التحسين البيئي، ومواجهة التغيرات المناخية، وهو ما تكلل باستضافة مصر قمة المناخ (COP27) في شرم الشيخ عام 2022، مع استهداف الدولة رفع نسبة الاستثمارات الموجهة للاقتصاد الأخضر من مستوى 30% (2022/2023) إلى نحو 40% من إجمالي الاستثمارات العامة في عام (23/ 2024)، وصولًا إلى 50% بحلول عام 24/ 2025.
في إطار سعي دول العالم إلى تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، ذلك النمو تصحبه آثار بيئية وتكاليف اجتماعية، مثل استنزاف الموارد الاقتصادية، والتلوث البيئي، لذلك برزت الحاجة إلى إعداد “الحسابات القومية الخضراء” التي تأخذ في الاعتبار أثر المتغيرات البيئية عند قياس النشاط الاقتصادي.
اقرأ أيضاً: التربية البيئية كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة
ماذا نعني بالحسابات القومية الخضراء؟!
تعد الحسابات القومية الخضراء نتاج التفاعل بين البيئة والاقتصاد، بهدف إرساء مبادئ التنمية المستدامة، إذ إن الحسابات البيئية الاقتصادية توسيعٌ لحدود الأصول في الحسابات القومية التقليدية، من أجل المحاسبة لتحقيق التنمية المستدامة، وتتناول دور البيئة في الأداء الاقتصادي، وتكمل الحسابات القومية التقليدية عن طريق تحديد النفقات المتعلقة بالقضايا البيئية، وإدماج الأصول البيئية والتغيرات التي تطرأ في العرض والاستخدام لهذه الأصول.
أيًا كانت التسمية فإنها تعني شمول عملية القياس وتكاملها والإفصاح المحاسبي والاقتصادي للأنشطة والبرامج التي تؤثر على البيئة التي تمارسها الوحدات الاقتصادية.
هناك من يرى أنها “تحديد تكاليف الأنشطة البيئية وقياسها، واستخدام تلك المعلومات في صنع قرارات الإدارة البيئية بهدف تخفيض الآثار البيئية السلبية للأنشطة والأنظمة البيئية وإزالتها عملًا بمبدأ من يلوث يدفع”.
تكمن أهمية تطوير الحسابات القومية الخضراء في تحديد العوامل التي يجب أن يُصحَّح بها الناتج المحلي الإجمالي، وتشمل هذه العوامل الأضرار البيئية ونضوب الموارد، فيجب خصم قيمة الأضرار البيئية من الناتج المحلي الإجمالي وصولًا إلى الرفاهية بدقة.
الناتج المحلي الإجمالي الأخضر
مصطلح يشير إلى إجمالي القيمة السوقية لجميع السلع أو الخدمات النهائية، التي تُنتَج داخل حدود بلد معين خلال فترة زمنية محددة، مع أخذ العوامل (المتغيرات) البيئية في الاعتبار.
كما يساعد الناتج المحلي الإجمالي الأخضر في قياس التأثير النقدي للضرر البيئي الناجم عن النمو الاقتصادي للبلد، بواسطة تحديد العوامل التي من المحتمل أن تسبب أضرارًا مكلفة في المستقبل، على سبيل المثال تكاليف التلوث وتغير المناخ والنفايات.
كما يعد الناتج المحلي الإجمالي المعدل بيئيًا أو الأخضر مؤشرًا للنمو الاقتصادي، مع العواقب والمشاكل البيئية لهذا النمو في الناتج المحلي الإجمالي التقليدي للبلد، إذ إن الناتج المحلي الإجمالي الأخضر ينتقد فقدان التنوع البيولوجي، ويحسب التكاليف الناجمة عن تغير المناخ.
أي إن الناتج المحلي الإجمالي المعدل بيئيًا أو القيمة المضافة المعدلة بيئيًا = صافي الناتج المحلي أو القيمة المضافة الصافية – إجمالي التعديلات البيئية.
ختامًا يأتي تأكيدنا على أهمية تخضير الاقتصاد، إذ يعد الاقتصاد الأخضر أحد آليات تحقيق التنمية المستدامة، فيفسح المجال لحشد الدعم لتحقيق التنمية المستدامة باعتماد إطار مفهومي جديد لا يحل محل التنمية المستدامة، بل يكرس التكامل بين أبعادها الثلاثة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، إذ يمكن أن ينطوي على فرص متنوعة، مثل تشجيع الابتكار وإنشاء أسواق جديدة وإيجاد فرص عمل ومن ثم الحد من الفقر وتحقيق الرفاه.
تعرف على: أسباب التضخم وآثاره على المجتمع والإنتاج والسياسة النقدية والمالية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا