مدخل
ذكرنا في التقديم للسلسلة في الحلقة الأولى نموذج أو سيناريو يتبعه الاستعمار، فكان مما ذكرت هناك: “بشيوع نمط الاستهلاك هذا تدخل فئات من الشعوب في الإنفاق الترفي على المنتجات الأجنبية وبمرور الوقت لا تستطيع الاستغناء عن تلك المنتجات، بل وتبدأ في الانتشار إلى طبقات أقل دخلًا.
نتيجة الاحتكار تتحكم الدول المنتجة في الأسعار، وتستدين الدول المستهلكة لتغطية ما أصبح احتياجات أساسية لها، ثم لا تلبث الدول الدائنة أن تتدخل في الشؤون الداخلية للدول المدينة، بحجة إصلاح اقتصادها لتستطيع الوفاء بالديون التي عليها، ثم يكون الاستعمار بأي ذريعة”.
استعرضنا على مدى الحلقات الست السابقة كيف أعادت بريطانيا هيكلة الاقتصاد المصري، وقد صاحب ذلك بروز طائفة طفيليين طالبت سعيد باشا بتعويضات وهمية ضخمة وما صاحب ذلك من البذخ والانفاق الترفي لسعيد باشا، مما انعكس على مالية مصر وأدخلها في دائرة الاستدانة للمرة الأولى على ما سيتضح من خلال هذه الحلقة الأخيرة في هذه السلسة.
الاستدانة في عهد سعيد
وقع سعيد فيما لم يقع فيه أبوه، فكانت إدارته المالية من أسوأ الإدارات. وقد استحكمت الأزمة المالية في أواخر حكمه فاضطر إلى بيع أثاث السراي والمتاع النفيس الموجود في خزائن الحكومة، وتسريح الجيش، ومنح موظفي الحكومة الذين يتركونها أرضَا معاشًا لهم ولأولادهم، ليتخفف من حمل مرتباتهم.
انتهى الأمر بالحكومة إلى التوقف عن دفع مرتبات الموظفين والمستخدمين، وأصدرت الحكومة أوراقًا مالية لم يعهدوها من قبل، كانت عبارة عن تحويلات على المالية المصرية يعطيها أولئك المستخدمون إلى مموليهم من وطنيين وأجانب.
كان التجار والمقاولون يحاصرون الخزانة المالية كل يوم ولا يفوزون بطائل، حتى هبطت قيمة تلك الأوراق إلى الحد الأدنى في السوق ([i]).
جدير بالذكر أن بوادر سوء الإدارة المالية لسعيد ظهرت مبكرًا، فقد قدر “جرين” الدخل المصري في عام 1857 بأربعة ملايين من الجنيهات المصرية، وهو دخل يزيد بنسبة الثلث على الدخل الذي مكن محمد علي من الاحتفاظ بأسطول وجيش هدد بهما الآستانة.
قال جرين أنه على الرغم من أن الميري هذا العام تم تحصيله مقدمًا، فإن مرتبات الموظفين لم تُدفع بعد، وبلغت الأموال المستحقة للبيوت التجارية 800,000 جنيهًا إسترلينيًا ([ii]).
نتيجة لذلك نجد أنه خلال حكم سعيد بدأ عهد القروض الأجنبية، مما كان له أبعد الأثر فيما أصيبت به البلاد في عهدي إسماعيل وتوفيق.
أسباب الاستدانة في عهد سعيد
السؤال الذي يفرض نفسه: ما الذي حمل سعيد على أن يقترض؟ فلم تكن الحكومة في حاجة ملحة إلى الاستدانة من البيوت المالية الأجنبية، فمعظم سنوات حكم سعيد كانت يُسر ورخاء، ولم تقع خلالها حروب طويلة تستنزف موارد الحكومة ([iii]).
في منتصف عام 1858 كانت مديونيات سعيد للتجار الأجانب قد ارتفعت إلى نحو مليون جنيه، وأخذ الكثيرون منهم يحبذون عقد قرض ليتمكن من تسديد أموالهم. فأرسل الوالي بعثة إلى الآستانة لطلب الإذن بعقد قرض بمليونين من الجنيهات.
لكن شريف باشا وزير الخارجية، أبلغ القائم بأعمال القنصل العام البريطاني أن احتمال الحصول على إذن بالاقتراض ضعيف، وأنه لا ضرورة لعقد القرض على أيّة حال. وبالفعل فشلت محاولة الحصول على الإذن.
بحلول نهاية عام 1859 كان تبذير سعيد الزائد عن الحد، والسهولة التي كان يسمح بها لأن تنتهبه مجموعة من الطفيليين، أسفر كل ذلك، ليس فقط عن عجز في الميزانية قدره مليونًا من الجنيهات، وإنما عن استنفاد جميع إيرادات سنة 1860 سلفًا.
في ذلك الحين جرى الكلام عن عقد قرض خارجي، يخصص لضمانه جزء من إيرادات مصر، وذلك لسداد الدين السائر (*).
قرض بنك الكونتوار
بمساعدة القنصل الفرنسي العام، وعن طريق باوليني بك (Paolini) –بولندي من المقربين إلى سعيد ومن التابعين له– جرى التفاوض على عقد قرض قيمته 28 مليون فرنك (نحو 1,200,000 جنيه إسترليني) مع شارل لافييت (Lafitte) وبنك الكونتوار دي كونت.
بلغ صافي قيمة هذا القرض، بعد خصم العمولة ومصروفات التأسيس وخلافه، مبلغ 20,700,000 فرنك. على أن يُدفع إلى الخزانة المصرية على خمسة أقساط خلال النصف الثاني من سنة 1860 ويُسدد ما بين سنتي 1861 و1865 بفائدة قدرها 6 في المائة.
ذلك مقابل سندات على الخزينة غير قابلة للتداول تودع في باريس بضمان إيرادات جمارك الإسكندرية. كان شرط إتمام هذا القرض ألا يصدر الوالي سندات أخرى على الخزانة حتى يتم سداده كليًا.
كان إبرام هذا القرض –الذي تم بتغاضي، إن لم يكن في الحقيقة بتشجيع وزير الخارجية الفرنسي توفينيل (Touvenel)– نتيجة للضغط الذي مارسه الدائنون الفرنسيون بدرجة كبيرة، وبخاصة دي لسبس الذي حمَّل سعيد عبء شراء الأسهم الباقية دون اكتتاب من أسهم قناة السويس.
زيادة الديون والضغوط على سعيد باشا
سرعان ما أُنفق هذا القرض في دفع التعويضات، وفي الإنعامات على أقارب الوالي، وعلى تسوية الديون بما فيها مرتبات الجيش المتأخرة، وعادت الخزانة خاوية من جديد.
بدلًا من أن ينخفض الدين السائر زاد إلى سبعة ملايين من الجنيهات، وأخذ دي لسبس يضغط على سعيد مرة أخرى لإبرام قرض آخر مدته ثلاثون عامًا، وفي نفس الوقت بدأ التأخير في دفع سندات الخزانة التي كان ميعاد استحقاقها قد آن.
في يونيو 1861 شرع سعيد في التفاوض مع بنك الكونتوار دي كونت لمنحه قرضًا أكبر، ولكن المفاوضات فشلت بسبب الشروط التي اشترطها البنك، فقد طلب فائدة تبلغ 12 في المائة، وعمولة 6 في المائة، وتعيين لجنة للإشراف على الميزانية المصرية.
على أنه كان يوجد في ذلك الحين منافس قوي يتمثل في هرمان أوبنهايم وابن أخيه هنرى أوبنهايم –مصرفيان يهوديان ألمانيان– وعلى الرغم من أنهما كانا لا يملكان ما يكفي لتلبية حاجات سعيد، إلا أنهما كانا في وضع يسمح لهما بإجراء الاتصالات لعقد القرض.
كانت لهما صلاتهما بالآستانة، وعن طريق تلك الصلات وبمساعدة السفارة الفرنسية في الآستانة نجحا في يناير 1862 في حمل الباب العالي على الموافقة على مشروع قرض لسعيد.
كان البنك الذي يعتمد عليه أوبنهايم هو بنك ساكس – مايننجن (Sax-Meiningen)، ولكن بعد أن تم توقيع العقد تم الإصدار في لندن عن طريق بيت فرولنج وجوشن ([iv]).
اقرأ أيضاً:
الحلقة الأولى من المقال، الحلقة الثانية من المقال
الحلقة الثالثة من المقال، الحلقة الرابعة من المقال
الحلقة الخامسة من المقال، الحلقة السادسة من المقال
أول قرض ثابت في عهد سعيد
إذن فقد عقد سعيد أول قرض ثابت سنة 1862 –أي في آخر سنة من عهده– ومقداره الاسمي 2,242,800 جنيهًا إنجليزيًا من بنك فرولنج وجوشن بلندن بفائدة 7 في المائة، أما قيمته الحقيقية فكانت 1,400,000 جنيهًا تقريبًا، أي أن مصر خسرت من رأس ماله ما يزيد على 800,000 جنيهًا.
تعهد بسداد هذا الدين على ثلاثين سنة، قيمة القسط السنوي من رأس المال والفوائد 264,000 جنيهًا، أي أن مجموع الأقساط 7,920,000 جنيهًا.
وبخلاف هذا القرض الثابت، فإن سعيد ابتدع طريقة السندات على الخزانة، وهي أن يستدين من المرابين ديونًا سائرة بواسطة سندات يحررها على الخزانة بالقيمة المقترضة، وتلك وسيلة خطرة على مالية البلاد، لأنها استدانة بلا ضابط ولا حساب ولا رقابة عليها ([v]).
بلغت ديون مصر في أواخر عهد سعيد ما يزيد عن 16 مليون جنيه مصري تفصيلها على النحو التالي:
4,023,065 | أذونات على الخزانة المصرية وحسابات جارية وشركة الملاحة المجيدية. |
2,340,000 | قرض بنك مايننجن. |
2,208,250 | عمولة وفوائد. |
3,899,380 | أسهم قناة السويس. |
3,246,500 | تعويضات. |
650,880 | الترعة الحلوة على القنال وأراضي الوادي. |
16,368,075 | المجموع |
تدهور حالة مصر المالية في عهد سعيد
لقد تورط سعيد باشا في مشروعات لم تكن البلاد في حاجة ماسة إليها، فأدت تصرفاته إلى إرباك حالة البلاد المالية والتدخل الأجنبي، وكانت مصر وقتها في حاجة شديدة إلى اتباع سياسة اقتصادية تساعد على التقدم والرخاء ([vi]).
اللافت للانتباه أن سعيد باشا أصدر إرادة إلى قائمقامه إسماعيل باشا في 15 ذي القعدة 1278 هـ (13 مايو 1862)، يعلمه فيها باقتراضه من أوبنهايم جاء فيها:
“نحيطكم علمًا أنه بعد وصولنا بعون الله تعالى إلى طولون قد وقعنا على شروط عقد قرض جديد بمبلغ عشرين مليونًا من الفرنكات من بنك ساكس مانيكس بواسطة الخواجة أوبنهايم، على أساس شروط القرض السابق البالغ مقداره أربعين مليونًا من الفرنكات، الذي عقدناه قبلًا مع المصرف المذكور.
سلمنا العقد الموقع من طرفنا ليد الخواجة المومأ إليه، فبناءً عليه قد أحلنا إجراء وتسوية مقتضاه نحو المالية على دولتكم” ([vii]).
هذا على ما يبدو قرض ثان، ولكن هل تم قبضه؟ المذكور في الإرادة التي بعث بها أنه مجرد توقيع على شروط قرض، أما القبض فيبدو أن سعيد باشا قُبض قبل قبضه، فلم تشر المراجع السابق ذكرها إلى هذا القرض.
المجتمع المصري في عهد الاحتلال البريطاني
هكذا يتضح الدور البريطاني في إعادة هيكلة الاقتصاد المصري، ليتوافق مع الأهداف الرأسمالية من تحويل مصر إلى منتج للمواد الخام التي تحتاجها الصناعة البريطانية، وتحويل مصر إلى سوق للمنتجات البريطانية.
كذلك يتبين ما فعله سعيد بمصر من فتح باب الديون الخارجية عليها، فاستدان ليغطي بذخه وليغطي تكلفة مشروعات لم تكن البلاد في حاجة ماسة لها، بل على العكس ستجعل مصر مسرحًا للصراعات الدولية.
اللافت للنظر أن أول قرض خارجي كان من بنك بريطاني، مما ساهم في ازدياد النفوذ الأجنبي في مصر، والذي سرعان ما سيتحول إلى تدخل سافر ينتهي بالاحتلال.
بذلك تنتهي هذه السلسلة، وأرجو أن أكون وُفقت في عرض تاريخي لنموذج استعماري تم تطبيقه في مصر منتصف القرن التاسع عشر وما تلاه، وإلى لقاء في مقالات أخرى إن شاء الله تعالى
المصادر
([i]) محمد صبري: تاريخ العصر الحديث – مصر من محمد على إلى اليوم، مطبعة مصر، ط2، 1927، ص 91.
([ii]) جون مارلو: تاريخ النهب الاستعماري لمصر (1798-1882)، ترجمة عبدالعظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003، ص 131.
([iii])عبدالرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، جزءان، دار المعارف، ط4، القاهرة، 1987، ج1، ص 70.
(*) يقصد بـ “الدين السائر: “دين الحكومة لبعض الأفراد أو الشركات الذين قاموا بأعمال لها مقابل مالي معلوم ولم تتمكن الحكومة من تسديده، ويتميز هذا الدين بأنه قصير الأجل كبير الفوائد. ويختلف بذلك عن “الدين الثابت” الذي هو عبارة عن مبلغ أو مبالغ معينة تقترضها الحكومة بفائدة معينة لمدة معينة، ويكون عادة لمدد طويلة وبفوائد صغيرة. ويستخدم الدين السائر عادة لمواجهة حاجات مؤقتة وملحة، أما مال الدين الثابت فيستخدم للمشروعات الكبيرة. أما في حالة مصر ها هنا فإن تضخم الدين السائر بدرجة كبيرة قد أوجد الحاجة إلى مواجهته بصفة عاجلة وملحة عن طريق دين ثابت.
([iv]) جون مارلو: المرجع السابق، ص ص 132-139.0
([v]) عبدالرحمن الرافعي: المرجع السابق، ج1، ص 70.
([vi]) محمد فهمي لهيطة: تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1944، ص ص 244-245.
([vii]) أمين سامي (باشا): تقويم النيل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط3، القاهرة، 2009، ج3، ص 403.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا