قضايا وجودية - مقالاتمقالات

لماذا خلق الإنسان؟ لماذا نعاني؟

كان الإنسان دوما وأبدا لغزا في طبيعته، فهو ليس إلها ولا ملاكا، ولم يكن شيطانا وحتى لم يكن حيوانا، لقد ظن الفلاسفة أنهم قادرون على حل طبيعة ولغز الإنسان، ولكنهم لم يستطيعوا ذلك.

كان الإنسان مشكلة، ربما لكونه من بين كل الموجودات هو الأكثر شقاء والأعمق ألما والأكثر حسا، فما السر وراء ذلك الشقاء؟ هل كان الإنسان حقا إلها ساقطا نتيجة الذنب، وكانت له الأرض موضعا للعذاب والجحيم؟

كيف وصف الفلاسفة الإنسان؟

كما كانت العقيدة الأورفية تعتقد؛ أن الإنسان يقضي فترة العقوبة في الأرض ثم يعود إلى السماء مرة أخرى، وكان سؤاله عن أصله مفتاح نجاته، فإن تذكر أصله الإلهي عاد إلى مكانه، وإن لم يتذكر عاد إلى الحياة على الأرض (الجحيم) في صورة أخرى، وفي شكل آخر من أشكال الحياة.

وصف الفلاسفة الإنسان –نتيجة تناقض طبيعته– بأوصاف كثيرة، فمنهم من وصفه بأنه حيوان ناطق، أو حيوان صانع، أو حيوان متدين، أو مريض، ضاحك، مفترس.

تلك الطبيعة المختلفة التي يؤمن بها غالبية البشر، أن الإنسان يتكون من جزء إلهي يتمثل في الروح، وجزء أرضي يتمثل في الجسد، تلك الطبيعة المشتركة والممتزجة كانت دوما لغزا سيطر على عقل الإنسان حتى تجاهل إجابة السؤال الرئيسي، من أنت يا إنسان؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وصف الإنسان عند أتباع مفهوم الخطيئة الأولى

الإنسان في القرآن

وإذا نظرنا إلى أتباع مفهوم الخطيئة الأولى مثل باسكال، بوسوي، ماثيون وغيرهم رأوا أن الإنسان مخلوق وضيع لا يملك أية طهارة، لا يتمتع بأية فضيلة ولا تنطوي نفسه عن البراءة، فهو مخلوق ساقط بوهيمي تعميه شهواته، لولا خوفه من النار ولولا احترامه لسلطة المجتمع لأقدم على ارتكاب أبشع الموبقات.

إن هذا التشاؤم يوحي أن الإنسان يحوي داخله نوعا من أنواع الرجس والدنس بوصفه جسدا شقيا ينساق نحو الأهواء والشهوات. إن القصة تعتمد على مفهوم الخطيئة الأولى وطرد آدم من الجنة لأنه أخطأ، تلك الخطيئة التي أصبحت ميراث آدم عليه السلام لأبنائه.

وصف الإنسان عند أصحاب المذهب الأخلاقي

بينما أصحاب المذهب الأخلاقي من الفلاسفة أمثال لافونتين، ولاروشيفوكو، وسان سيمون، وشامفور، وموباسان يصورون الإنسان بالآلة التي تعمل فقط من أجل المنفعة.

قال باسكال عن وصفه للإنسان: “أن الإنسان مشكلة، لأنه يجمع بين شتيتين ويؤلف بين نقيضين ويحمل بين جنباته الجنة والنار”.

قال بردييف عن الإنسان: “أنه مشكلة لأنه ابن الله ووليد العدم وربيب الحرية، أنه المخلوق القديم الذي يمتزج فيه النور والدم، الشعاع والطين، الطهارة والرجس، الأمل واليأس، أنه المخلوق المختلط الملتبس الذي لا سبيل إلى تحديد مكانه أو وصف مكانته أو تعريف طبيعته، لذلك هرب الكثيرون من إجابة هذا السؤال”.

الإنسان في القرآن

لكن كيف عالج القرآن الكريم مشكلة خلق الإنسان؟

أول ما جاءنا عن اختلاف الإنسان في سورة الأحزاب في قوله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)”.

قال أغلب المفسرين عن الأمانة المذكورة أنها الفرائض والطاعات والدين. ولكن ألا يسبح كل من في السماوات والأرض والجبال بحمده تعالى، بقوله في سورة الإسراء: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)”؟

اقرأ أيضاً:

قيمة الإنسان الحقيقية

الحياة الإنسانية والإنسان

اعتراض الملائكة على استخلاف الإنسان

 ما هي الأمانة التي رفض حملها السماوات والأرض والجبال؟

الإنسان في القرآنالأمانة هي الاختيار، فكل المخلوقات التي عرضت عليها الأمانة مخلوقات مسيرة لا تملك حق الاختيار، اختارت طواعية أن تتخلى عن هذا الحق، وقبل الإنسان، الجاهل بعاقبة القبول.

إن الاختيار صفة إلهية لم يطلبها حتى الملائكة المكرمون، لذلك جاء في التوراة نفس المعنى الذي يؤكد على منح الإنسان صورة من صور الفعل الإلهي ليست لغيره من المخلوقات: “فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ”، (تك 1: 27).

تلك المنحة الإلهية جعلت من الإنسان خليفة لله في الأرض، قال تعالى في سورة البقرة: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)”.

عندما أخبر الرحمن خلقه المكرمين من الملائكة عن ميزة خلقه الإنسان، تلك الميزة التي جعلت منه مؤهلًا لأن يكون خليفة الله في الأرض، تعجب الملائكة عن منحه تلك الصفة “الاختيار”،

والتي تجعل منه فاسدا أو قاتلا، بينما المخلوق المسير مثلهم يسبح ويعبد، وكان الملائكة يقولون: لم لا يكون الإنسان مثلنا يعبد ويسبح فقط؟ لم يمنح القدرة على الاختيار فيفسد ويقتل ويشقى؟!

من له حق الاختيار غير الإنسان؟

ربما ظن البعض أن الإنسان مخلوق مميز، والبعض بالغ في تقدير محنة الإنسان التي تسمى هبة الإنسان، فاعتقد بعض الناس أنهم أبناء الله وأحباءه، والحق أقول لكم أن الله سبحانه وتعالى لم يميز أحدا من خلقه،

عرض أمانة الاختيار على كل خلقه فرفضوا إلا الإنسان، وحتى الشيطان اختار، اختار أن يكون عاصيا معاندا مكابرا ولن يعود عن اختياره،

منح الله لخلقه فرصه اختيار المصير فاختار كل الخلق مرة واحدة عند السؤال، إلا الإنسان الذي قبل أن يختار في كل فعل وقول له، لذلك هو الوحيد من كل مخلوقات الله سبحانه معلق المصير إلى يوم الحساب.

لقد قبل الإنسان أن يكون خليفة الله سبحانه في الأرض، وقبل حرية الاختيار لكنه ليس لديه القدرة على إنفاذ اختياره، تلك القدرة الإلهية التي لم تعط لأحد من خلقه، لدينا الإرادة والعقل للاختيار وليس لدينا القدرة على تحقيق ما نختار.

هل طبيعة الإنسان الدنس والخطيئة؟

يحوي الإنسان داخله الشهوات والرغبات كجزء من طبيعته وتكوينه، يحتاج الطعام والكساء، كل شيء يحتاجه الإنسان هو دافع للبحث والاختيار، يحمل الإنسان أيضا عوامل التقويم وأسباب حسن الاختيار،

العقل، القلب، الروح، والضمير، ذلك التكوين المتوازن، الإنسان وحده القادر على ترجيح إحدى كفتي الميزان، كما توجد شياطين تدفع الإنسان إلى معصية، هناك الوحي يرشد الإنسان للنجاة.

ربما آمن البعض أن الخطيئة مصير الإنسان وميراثه؛ كما سقط أبونا آدم مصيرنا السقوط، والسؤال هنا هل سقط آدم عليه السلام حقًا؟ نعود للمشهد الذي قدمه لنا الله سبحانه وتعالى حيث أقسم الشيطان –ومعنى الاسم “المعاند”– على غواية الإنسان، فقال الله تعالى في سورة البقرة:

“وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)”.

سبب خروج آدم من الجنة

في الآية الكريمة وصف الرحمن خطأ آدم بقوله “فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ”، فأزلهما أي أوقعهما في الزلل، والزلل في اللغة العربية سقطة أو هفوة، نحن نقول بالعامية “زلة لسان” أي كلمة خرجت دون تفكير، لم يكن خطأ آدم إلا اختيار خاطئ لأنه تم في لحظة غياب عقل، كان اختيار خاطئ لذلك تاب الله عليه عقب إدراكه أنه أخطأ. “فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ”.

سيرد البعض قائلا: لو لم يكن خطأ آدم عليه السلام خطيئة عظيمة، لماذا طرد من الجنة؟ من البدايات وكان قدر الله للإنسان الحياة على الأرض، كانت الجنة محطة تأهيل وتعليم وبمجرد الاختيار الأول لآدم صار مؤهلا ليبدأ تجربته لتنتظره الجنة كمصير لمن أحسن الاختيار.

عاش آدم في الجنة وسقط في أول اختبار حقا، لكن ألم نَعِ أن الإنسان خلق من أجل الاختيار؟ ألم نَعِ أن الله قد منح الإنسان عوامل السقوط وعوامل النجاة؟

الإنسان له إرادة واختيار

الله سبحانه العالم بطبيعه خلقه للإنسان كيف يهلكه على طبيعته التي هو سبحانه خالقها؟ لذلك كانت رحمته واسعة، كيف يحكم على الإنسان بالخطيئة وقد “زل” عن أمر ربه وهو المخلوق ليختار طاعة أوامره سبحانه وتعالى أو العصيان؟ كيف يعُاقب الإنسان على تكوينه؟

إنك أنت أيها الإنسان موضع التجربة، لست مميزا، لست إلها ولا ابن إله، لست  عاصيا بطبيعتك ولست طائعا بطبيعتك، فأنت وحدك من تختار، لهذا خُلقت وهذا ما يميزك، فأحسن الاختيار.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د.م محمود حنفي محمود

أستاذ علم اللاهوت القديم والمعتقدات الدينية القديمة كلية الآداب –جامعة عين شمس