أخلاقيات الاتصال بين عصري الإعلام التقليدي والرقمي: التباينات.. الإشكاليات.. الحلول
الجزء الأول
نشأة وسائل الإعلام
رغم أن مهنة الإعلام بملامحها الرئيسة –كونها عملية اتصال تسعى لنقل معنى ما من مرسل ما لمتلق معين عبر وسيلة ما لتحقيق أثر متعمد– هي مهنة عرفتها البشرية منذ بدايات الاجتماع الإنساني، إلا إن الإعلام بمعناه الحديث لا يمكن أن ينطبق إلا على تلك الحقبة التاريخية، التي شهدت نشأة وسائل الاتصال الجماهيري وتطورها وسيادتها (Mass Media)، والتي شهدت الدنيا بداية إرهاصاتها الحقيقية مع ظهور آلة الطباعة على يد الألماني يوهانس غوتنبرغ سنة 1436م، واعتمادًا على هذه الآلة التي قفزت بقدرات التواصل البشري قفزة هائلة إلى الأمام، ظهرت أول صحيفة أسبوعية مطبوعة في العالم في ألمانيا عام 1605م، وكان اسمها (Relation aller Fürnemmen und gedenckwürdigen Historien). أما الصحيفة اليومية الأولى في العالم فكانت صحيفة ألمانية أيضا، وهي صحيفة (Einkommende Zeitungen) وذلك في عام 1650م.
الوسائل المسموعة
ثم شهد الاتصال الجماهيري قفزة ثانية بظهور الاتصال الجماهيري الإلكتروني مع ظهور السينما 1895م، ثم الراديو، الذي بدأ البث التجريبي منذ عام 1905م، ثم التلفزيون في 1935م.
الوسائل المرئية
ثم جاءت القفزة الثالثة، والتي تمثلت في البث الفضائي الذي مكن القنوات التليفزيونية المحلية من الوصول إلى جمهور عابر للقارات، وذلك بداية من 1963م، وهذه القفزة تعد القفزة الأكبر في تاريخ الاتصال، لكونها مكنت من وصول رسالة ما لجمهور يقدر بالمليارات في الآن نفسه، على النحو الذي مكن نصف سكان العالم –الذين كان عددهم 5.8 مليار– في اليوم السادس من الشهر التاسع من العام 1997م من متابعة جنازة الأميرة ديانا أميرة ويلز لحظة بلحظة.
اقرأ أيضاً: الإعلام حصان طروادة الحديث
شبكة الإنترنت
رغم ضخامة الأثر الذي استطاعت الفضائيات تحقيقه عبر وصولها لكافة أنحاء البسيطة، وعلى نحو لم يتحقق لوسيلة إعلامية قبلها، إلا إن ثمة مولودًا عملاقًا قدِم من رحم مسار مغاير تمامًا لمسار التطور التاريخي لوسائل الإعلام التقليدية، ألا وهو “شبكة الإنترنت”، الذي أتيح لعموم الناس منذ ثلاثة عقود تقريبًا 1991م.
كيف أثر الإعلام الرقمي على الإعلام التقليدي
هذا المولود تمكن في هذه العقود الثلاثة من أن يصبح شبكة عنكبوتية تطبق خيوطها على الكرة الأرضية برمتها، من شعر رأسها إلى أخمص قدميها، على نحو جعلها الوسيلة الاتصالية المهيمنة عالميًا، والتي ابتلعت –تقريبًا– كل وسائل الاتصال التقليدية، وكل أنواع الجمهور في جوفها، بل إنها ابتلعت أيضا التصور التقليدي لعلمية الاتصال الجماهيري، بل وقواعد اللعبة الاتصالية كلها، فأصبح يتداخل فيها الاتصال الشخصي مع الجمعي مع الجماهيري، وأصبح المرسل مستقبلًا والمستقبل مرسلًا.
تغيرت فيها شروط امتلاك وسيلة اتصال جماهيري عابرة للحدود، لا سيما مع ما حملته هذه الشبكة من منصات التواصل الاجتماعي (Social Media)، التي بلغ عدد مشتركيها بحلول تموز/يوليو 2022م 4،7 مليار إنسان، وهو أكثر من نصف عدد البشرية جمعاء، والتي مكنت كل مشترك من مشتركيها ألا يكون متلقيًا لكل ما يحلو له من المحتويات الاتصالية اللا نهائية التي تحملها هذه المنصات فحسب، بل مكنته أيضًا أن يكون صانعًا لما يشاء من محتوى.
اقرأ أيضاً: الإعلام والأجورا الرقمية
إشكاليات صناعة المحتوى الرقمي
بالطبع فإن صناعة المحتوى على هذه المنصات، وعلى غيرها من مواقع الشبكة العنكبوتية لم تقتصر فقط على الأفراد، وإنما شملت كل المؤسسات الإعلامية المقروءة أو المسموعة أو المرئية العالمية منها أو المحلية، ذات الإمكانات الهائلة، أو ذات الإمكانات المحدودة، ذات الرسائل المحايدة، أو ذات الرسائل المغرضة، تلك التي تسعى إلى التنوير، أو تلك التي تسعى إلى التضليل، تلك التي تلتزم بالأخلاقيات الإنسانية الفطرية السوية، أو تلك التي تضرب بهذه الأخلاقيات عرض الحائط سعيًا وراء شهرة أو مال أو مصلحة ما.
هكذا، أصبحنا نقف هنا أمام سوق عملاق، سوق يتيح لمليارات الأفراد وملايين المؤسسات أن يعرض كلٌ بضاعته لمن يريد على النحو الذي يريد، بما فيها من غث أو سمين، سواء التزم بأخلاقيات الاتصال أو انتهكها، سواء أكانت غاية هذه البضاعة (المحتوى) غاية أنانية ترنو لتحقيق أهداف صانعها على حساب مستهلكي هذا المحتوى، أو كانت غاية عادلة تقيم توازنًا بين مصالحهم ومصالحه، أو كانت غاية إصلاحية تبني محتوى يصب كله فيما يصلح حالهم.
مزايا وعيوب الإعلام التقليدي
رغم أن انتهاك أخلاقيات الاتصال أمر ليس جديدًا، فكم مارسته وتمارسه وسائل الإعلام التقليدية بداية من الصحف وانتهاء بالفضائيات، من التضليل، والخداع، واللعب بالعقول، وانتهاك خصوصية الأفراد، وتهديد مصالح الجماعات والمؤسسات، وربما تهديد مصالح مجتمعات بأسرها، بالصورة التي تحقق مصالح مالكي هذه الوسائل أو مصالح أصحاب القرار فيها، رغم كل ذلك إلا إن هذه الوسائل التقليدية –لا سيما داخل المجتمع الواحد– ثمة مالك لها أو متحكم معروف من قبل الجميع فيها، ويمكن في حالة التجاوز اللا أخلاقي أن تتم –بصورة أو بأخرى– مساءلته، كما يمكن فرض نوع ما من الرقابة على ما يبثه، على نحو يضمن ألا يقع في مثل هذا التجاوز ثانيًا.
أما إذا كانت هذه الوسيلة أو تلك مملوكة للدولة فهنا تخضع بطبيعتها لرقابة ذاتية، تحمي رسائلها من أن تحمل انتهاكًا واضحًا للأخلاقيات المستقرة في المجتمع الذي تهيمن عليه هذه الدولة. وهكذا ثمة إمكانية ما للتحكم في الخروق اللا أخلاقية التي يمكن أن تمارسها وسائل الإعلام التقليدية.
خصائص الإعلام الرقمي
أما وسائل الإعلام الرقمية، ولكونها تحمل تباينًا واضحًا في خصائصها عن وسائل الإعلام التقليدية، فإنها تحمل إشكاليات أخلاقية جديدة مغايرة للإشكاليات التي حملتها تلك الوسائل التقليدية.
لعل أبرز هذه الخصائص كونها تمتلك قدرة فائقة على الوصول لكل البشر في كل مكان، وتمتلك قدرة هائلة على إتاحة التفاعل فيما بينهم بشكل فردي أو جمعي أو جماهيري، سواء أكان هذا التفاعل إيجابيًا أو سلبيًا، كما يمكنها –من خلال برامج الترجمة الحديثة– أن تكسر حاجز اللغة بين البشر، كما تمتلك –من خلال يسر البث عليها– منح أي شخص بأقل الإمكانيات القدرة على أن يبث ما يشاء من مواد على النحو الذي يمكنه –في موقف ما– أن يصبح ذا تأثير لا يقل عن تأثير قناة فضائية كاملة تمتلك جيشًا جرارًا من الإعلاميين المحترفين.
كما أنها تُمكن صانع المحتوى من أن يخفي هويته –إن أراد– ليبث ما يشاء من مواد على جمهوره مهما كانت درجة لا أخلاقية هذه المواد، ناهيك عما أتاحته لها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من إمكانية التزييف العميق للصور ومقاطع الفيديو، وتركيب صور لأشخاص مشاهير –أو حتى غير مشاهير– على مقاطع مخلة أخلاقيًا على نحو يصعب تمييزها عن الحقيقية لغير المتخصصين.
مواجهة تحديات الإعلام الرقمي
لا مراء أن كل ذلك يجعل الإعلام الرقمي يحمل إشكاليات أخلاقية من نوع جديد، مثل هذه الإشكاليات تحتاج رؤية متكاملة تقدم حلولًا وآليات مبتكرة للتصدي للخطر الذي تمثله، في ظل صعوبة أن تتمكن آليات التحكم الأخلاقية في وسائل الإعلام التقليدية من التصدي له، تلك الآليات التي تمثلت في دساتير الأخلاق ومجالس الصحافة، والاتحادات الإعلامية، والنقاد الداخليين الذين يمكن أن تعينهم الوسائل الإعلامية لتنبيهها إلى أخطاء ممارسة المهنة، والنقاد الخارجيين وجماعات الضغط، والجمهور العام، وذلك من خلال الشكاوى أو رسائل القراء لوسائل الإعلام، وغيرها من الوسائل التقليدية.
بالطبع ثمة ضرورة لطرح رؤية تنظيرية متكاملة للأخلاقيات الإعلامية في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي، لا سيما في منطقتنا العربية التي تعاني غزوًا تغريبيًا عبر وسائل الإعلام الرقمية، لا يقف هدفه عند إحداث تغير في بنيتها الأخلاقية، وإنما يرنو لهدم بنيتها العقدية برمتها.
في مقالات لاحقة سنسعى –بمشيئة الله تعالى– لتلمس الملامح الأولية لهذه الرؤية.
مقالات ذات صلة:
هل الإعلام وسيلة لتشكيل الرأي العام أم وسيلة مؤدلجة لصناعة القيم؟
كيف يُوجه الإعلام العقل الجمعي؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا