الأخلاق أم المصالح؟ وماذا تفعل لو كنت مكان الأستاذ عماد ؟
كان يسير في الردهة التي تؤدي إلى المخرج الثالث للشركة وهو غضبان ثائر يكاد من فرط غضبه أن ينفجر وجهه، فقابله صديقه شعبان وأوقفه متسائلاً: “ماذا بك يا عماد ؟ هل حدث شيئاً؟ هل كنت فعلا عند الأستاذ صلاح كما يقول الزملاء؟”
نظر إليه بعدما ضرب كفاً على كف وأومأ برأسه موافقاً، ثم استرسل قائلاً: “هذا الرجل بالتأكيد فقد عقله!”
شعبان: “حسناً لنحتسي كوبين من القهوة ولتحكي لي ما خطب هذا الرجل هذه المرة”
عماد : “للأسف يا شعبان لن أستطيع، فلدي موعد هام سأذهب إليه حالاً،عذراً يا رجل وسألقاك لاحقاً”.
انصرف عماد وهو هائم على وجهه، لا يدري كيف سيذهب لهذه الندوة وهو في هذه الحالة! فهو الآن مطالب أن يلقي ندوة عن الأخلاق والمادية في إحدى الصالونات الثقافية المرموقة.
عماد رجل مثقف موهوب، لديه العديد من الاطلاعات الفكرية والمشاركات على الساحة الثقافية، وتلك الندوة هي إحدى هذه المشاركات.
يعمل في شركة من شركات البترول كأحد موظفي قسم الحسابات، ولكن نشاطه بالشركة يتعدى كونه مجرد محاسب؛ فهو مسؤول عن دورات تدريبية تتم بشكل ممنهج داخل الشركة لجميع العاملين بها، وأحد تلك التدريبات كانت السبب الرئيسي وراء شجاره مع مديره الأستاذ صلاح.
فلقد جهز دورة تدريبية موضوعها قريب من موضوع الندوة التي سبق أن ذكرناها، إلا أنها أكثر إسقاطاً وتمثيلاً داخل العمل، فالدورة تحاول أن تنصر الجانب الأخلاقي القيمي على المكسب المادي الذي لا يرى ولا يريد سواه الأستاذ صلاح.
فبالطبع قوبلت دورته بالرفض التام ومنعها من العرض أمام العاملين بالشركة، متحججاً أنها لا علاقة لها بأهداف الشركة ومتهماً عماد بالترصد وإثارة الفوضى والإزعاج.
ولم يكتف الأستاذ صلاح بذلك، بل شدد المسؤوليات الوظيفية على عماد والتي تتعلق بملفات المحاسبة وقرر أن يمد ساعات العمل الخاصة بعماد فتكون من السابعة صباحاً حتى السادسة مساءً، بعد أن كانت تبدأ من التاسعة والنصف صباحاً، بالإضافة إلى تقليص مسؤولياته في قسم التدريب والتطوير.
إنها كارثة أن يتواجد يومياً من السابعة صباحاً في الشركة، من سيتولى مهمة توصيل أبنائه الصغار إلى المدرسة بعد الآن؟!
وكيف يتم تهميش دوره في قسم التدريب والتطوير وهو شغوف به أكثر من قسم المحاسبة!
حاول أن يتمالك أعصابه ويهدأ من روعه، فهناك جمهور ينتظر محاضرته الهامة عن علاقة الأخلاق بالفكر المادي، واستقل سيارة أجرة إلى مكان الندوة.
تحدث في الندوة عن رأيه في شيوع استخدام الأخلاق كمادة استعمالية لتحقيق مصالح الفرد، بدلاً من أن تكون سبيلاً لرقي الإنسان وتحقيقه لإنسانيته من خلال ممارستها كما هي، وخاصة عندما تتعارض مع المصالح الظاهرية والمكاسب الوقتية، فكان يصف المجتمع بالغارق في المصالح والملذات المادية التي عمته عن نصرة الفضيلة والقيم.
ثم أنهى حديثه بالبيت الشعري المشهور لأحمد شوقي:
وإذا أُصـيـب القـــوم في أخـلاقـهــــم *** فـأقـــمْ عـلـيـهـــم مـأتـمـــاً وعــويــلا
ثم فتح باب النقاش ليُفاجأ بكم هائل من الانتقادات والأسئلة التي استطاع ببراعة أن يرد عليها في موقف هو الأروع في الدفاع عن القيم وتفضيلها على أي إسقاط كلي أو جزئي للفكر المادي، وتنديداً بأي موقف ينصر فيه الفرد مصلحته عن تمسكه بقيمه وأخلاقه الفضلى.
أنهى ندوته التي حازت على إعجاب الكثيرين وعاد إلى واقعه السيئ، فها هو يوم الخميس قد انقضى بقرارات الأستاذ صلاح وهي واجبة التنفيذ بداية من الأحد القادم.
لديه يومان يحاول أن يحل فيهما مشكلة توصيل الأبناء إلى المدرسة والاستعداد للذهاب للعمل في تمام السابعة، فلا حيلة أخرى لديه إلا تنفيذ قرارات الأستاذ صلاح حتى تسنح له الفرصة لتعديل الأوضاع وإعادتها إلى عهدها القديم.
…
يوم الأحد في تمام السادسة صباحاً
يرن جرس المنبه، فيستيقظ عماد ليتأكد أن أبناءه قد استقلا سيارة الأجرة التابعة لشركة خاصة لنقل الأطفال من منازلهم إلى المدرسة صباحاً، بعد أن اضطر أمس لدفع مبلغاً من المال مقابل تهيئة مكان لأبنائه فى السيارة، فلقد كان العدد مكتملاً لولا أن المدير قَبِلَ أن يطرد طفلين آخرين فى مقابل ما دفعه عماد له!
وبعد أن تأكد أن الطفلين نزلا ورحلا، غفت عيناه قليلاً ليصحو على صوت الهاتف يرن.
عماد: “ألو، أهلا شعبان كيف حالك؟”
شعبان: “بخير يا صديقي، أين أنت؟ هل استطعت أن تقنع أستاذ صلاح بالمجيء في التاسعة والنصف؟ أنت رائع”
عماد: “ماذا تقول؟! أنا لم أقنعه بالطبع وسآتي اليوم فى تمام السابعة، أنت تعرف صلاح لا يستطيع أحد أن يقنعه بشيء مخالف لما في رأسه، ولو لم أنفذ كلامه سأطرد فوراً”
شعبان: “إنها السابعة الآن يا صديقي! وصوتك ما زال… ”
قاطعه عماد متفاجئاً فنظر إلى الساعة وإذا بها حقاً السابعة وهو لا يزال على الفراش.
انتفض من الفراش وفي خلال عشر دقائق كان في الشارع، واتجه فوراً إلى مجمع العربات التي توصله إلى الشركة وإذا به شديد الازدحام ولا يوجد عربات كافية لهذا الكم الهائل من الناس.
فكر أن يستقل سيارة “تاكسي” ولكن للأسف لا توجد ولا سيارة شاغرة؛ فالسيارات كلها مشغولة والطريق مزدحم.
تحدث إلى شعبان هاتفياً -وهو ينتظر إحدى العربات- يطالبه أن يذهب لأستاذ صلاح ليخبره أن ابنته الصغرى مرضت في الصباح وذهب بها إلى المشفى ولهذا السبب تأخر!
وبعد أن أنهى اتصاله مع شعبان أتت عربة من العربات، فاستعد جيداً ليفوز بأحد المقاعد، ولكن لسوء الحظ انهال الناس على العربة فامتلأت قبل أن يتحرك من مكانه، فاستسلم بعد تفريغ غضبه ببضع كلمات بذيئة.
ثم أتت عربة أخرى فهمّ باتجاهها ومعه آخرون في تزاحم وتنازع، وأخيراً كاد أن يجلس في الكرسي الوحيد الفارغ، فوجد امرأة عجوزاً -تظهر عليها علامات المرض جلية- ظهرت له فجأة تستأذنه قائلة: “خليني أركب يا بني والنبي؛ لو ملحقتش معاد الدكتور المرة دي كمان مش هستحمل التعب ومش هيرضى يدخلني بعدها”.
همت أن تركب بعد جملتها هذه، ولكنه هم بدفعها وركب هو!
تمت
اقرأ أيضاً :
الأزمة المادية وإفسادها للإنسانية – لماذا رفض صاحبنا الدعوة ؟
غريب أمركم أيها الماديون!! – كيف يعرف الإنسان نفسه ويدرك سبب وجوده ؟
مبحث القيم في الفلسفة وإشكالاته – كيف ينظر المنهج التجريبي المادي للأخلاق ؟