استقيموا يرحمكم الله
لعل أصعب ما يمكن أن تفعله هذه الأيام هو أن تناقش شخصًا ما في قضية تختلفان بصددها، لا سيما إن كانت هذه القضية الجدلية تتعلق بالشأن السياسي، أو بما هو خاضع للاجتهاد العقلي من أمور الدين. والأكثر صعوبة أن تكون قضية دينية ذات بعد سياسي، أو قضية سياسية تم تسويقها في إطار ديني، ناهيك عن القضايا الخلافية التي تتعلق بالحقوق والمصالح العامة أو الشخصية في زمن يتم فيه إزهاق الحق علنًا ودون حياء.
هدوء يتبعه العاصفة
يتسم النقاش في البداية بالهدوء عادةً، لكن ما أن يطرح كلٌ منكما وجهة نظره، ويصطدم الرأيان المتعارضان، حتى يتبدد الهدوء تمامًا، لتعلو الأصوات التي تتخللها غالبًا الشتائم والاتهامات المتبادلة بين الطرفين، وقد يتطور الأمر إلى اشتباك بالأيدي، قبل أن ينتهي إلى عداء وقطيعة ما أنزل الله بهما من سلطان!
هذا النموذج الصارخ للنقاش قد لا تجد له مثيلا لدى الشعوب التي احتلت مكانها المميز في مسيرة الارتقاء الحضاري، لكن لدينا النموذج الأكثر شيوعًا في كافة المواقف والمناسبات: بين أفراد الأسرة الواحدة، في المقاهي والطرقات ووسائل المواصلات، في الشركات والجامعات والمجالس النوعية، وحتى بين المصلين في دور العبادة!
ولا مجال هنا لاستدعاء الماضي بما يحمله من إرث حضاري ضخم ومتنوع تجميلا لواقعنا البائس، إذ لم يحُل هذا الإرث دون أن نتجرع مرارة النكسات العقلية والأخلاقية التي تغشى حياتنا المعاصرة، مثلما لم يحُل دون أن نقبع صامتين في مؤخرة الركب الحضاري نستجدي من الأمم فتات موائدها، ونلتمس السلوى والعزاء في ميراث الأجداد.
بعبارة أخرى، لن يجدي نفعًا أن نتغنى بعبقرية الأجداد في الوقت الذي يكابد فيه العقل الجمعي مرضًا عضالا يوشك أن يفتك به، ولن يجدي نفعًا أيضًا أن نعيش فرحين في غيابات الاستهلاك المحموم لمخرجات العقل الغربي من أفكار ومنتجات مادية، وبين ظهرانينا حاضر يئن من وطأة الجهل والفقر والمرض والتخلف.
ما نحتاجه اليوم
على العكس، نحن في حاجة إلى وقفة جادة مع النفس، نعترف فيها بفشلنا، وعجزنا، وتفاهتنا، وكذب انتمائنا المعرفي لأسلاف نتاجر بما خلفوه لنا ونحيا عليه، وكذب انتمائنا إلى عالم معاصر تدهسنا فيه الأمم بعلومها وفلسفاتها وفنونها.
من جهة أخرى، قليلة هي الآن تلك الحوارات الجدلية التي تهدف إلى إعادة اكتشاف الآخر وقراءة أفكاره، لا من منظور أحادي البعد يعكس إرثًا متراكمًا من الشك والإنكار والرفض لأية ثقافة أخرى مهما كانت إيجابياتها، وإنما من منظور متعدد الأبعاد، ينطلق من التسليم بحق الآخر في الوجود، وحريته في العقيدة، وأحقيته في التعبير عن ذاته وأفكاره، بما لا يتجاوز دائرة التسامح والتقدير المتبادل.
إن ذلك في الحقيقة هو ما نحتاجه اليوم في ظل هذا الصراع اللا عقلاني المتبادل بين ما ندعوه شرقًا وما ندعوه غربًا، أو بالأحرى بين شرقٍ عربي – مسلم، ازدهرتٍ حضارته ردحًا طويلا من الزمن، وكان إرثه الثقافي كافيًا لإيقاظ أوربا بأكملها من غفوتها إبان فترة القرون الوسطى، وبين غربٍ يُمسك الآن بزمام الأمور علميًا وتكنولوجيًا، سياسيًا واقتصاديًا، بل ويستأثر بها دون أن يكلف نفسه عناء معرفة الآخر ومشاركته همومه ومشكلاته.
لكن مهلا.. ألم يكن الأمر الإلهي «وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (النحل: 125) منهجًا اقتدى به النبي «محمد» (صلوات الله وسلامه عليه) في دعوته إلى التوحيد وإعمال العقل ونبذ جهالة الجهلاء، وحقيقٌ على المسلمين أن يقتدوا به في كل زمان ومكان؟ بل ألم تكن قيم الغرب، منذ أن أخذ «سقراط» يطوف في الأسواق محاورًا، ونسج لنا «أفلاطون» فكره في حوارٍ، بمثابة الإعلان يعلنه الفكر عن حريته كيف تكون؟
نحن في حاجة لمن يُعلمنا كيف نفكر
لا شك أن واحدية الجلباب الفكري ثقافة ممقوتة، تُخالف سُنة الله في خلقه، وتُناقض مفهوم الإنسان ككائن يرقى بالعقل، ما من أحدٍ حولك إلا ويريدك أن تعيش في جلبابه، أن تفكر بمنطقه، إن كان له منطق! أن تعشق الوطن على طريقته، حتى ولو كان عشقه محكومًا بمصالحه!
أن تُطبل وترقص على إيقاعه، ولو كان نشازًا، أن تسمع بأذنيه ولو كانت صماء، أن ترى بعينيه ولو كانت عمياء، تقتفي أثر خطواته ولو كانت مُعوجة، وأن تبيع وتشتري في سوقه ولو كانت سوقًا للنخاسة!
انتقلت الواحدية من إقامتها فلسفيًا في الموضوع المتعالي (الوجود – المثال) إلى إقامتها في الذات المفكرة، واللا مفكرة، المتمركزة حول إنيتها، في الجلباب ذي الشكل الواحد واللون الواحد..
ومن جوف الإنية تخرج نظرية (إما – أو)، إما معي أو ضدي، إن خالفتني فأنت خائن، وإن انتقدت خطأً أراهُ صوابًا فأنت هادم، وإن كشفت عوارًا تعاميتُ عنه فأنت عميل! نظرية تخلى عنها العالم المتحضر فتكاثرت ألوانه وأثمرت أفكاره علمًا وقيمًا وتنوعًا ثقافيًا نحن أبعد ما نكون عنه!
كم نحن في حاجة إلى من يوقظنا من سُباتنا الحضاري القاتل، ويقتطع بمشرطه الحاد ما ضمُر من عقولنا.. نحن في حاجة لا إلى من يخدرنا بشعارات تزيد من نكساتنا، أو إلى من يعالجنا بمسكنات التفاؤل الكاذب والتشكل الكاذب والتحضر الكاذب، بل إلى من يُجري للجسد العليل جراحات عاجلة..
من يُعلمنا كيف نفكر في أفكارنا، أو كيف نفهم الحركة الجدلية الصاخبة لأفكارنا عبر مراحل تطورها، متى وأين ولماذا تصدق، ومتى وأين ولماذا تكذب، وكيف تجمع بين الصدق والكذب عبر مراحل لا متناهية من الحياد مثلما يمتزج النور بالظلمة، ومثلما تتلاحم الأعداد على طول الخط الفاصل بين الواحد والصفر.. نحن في حاجة إلى من يردد على مسامعنا دومًا: استقيموا يرحمكم الله!
اقرأ أيضاً:
إن أردت كذبًا، فالساحة مملوءة يا صديقي
نخبة المفكرين الجهاز المناعي للمجتمع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.