مقالات

برهان البراءة!

فيزيائي يكتب بحثًا من أربع صفحات لإثبات براءته من مخالفة مرورية بقيمة 400 دولار!

ثمة طُرق عديدة لتحاشي دفع غرامات المخالفات المرورية أو التهرب منها، لعل أشهرها في الوطن العربي أن تكون لك سطوة مجتمعية أو واسطة حكومية!

هذا ما لم يفعله الرياضي والفيزيائي الروسي «ديمتري كريوكوف» Dmitri Krioukov، بل لجأ إلى العلم لإثبات براءته من مخالفة مرورية بقيمة 400 دولار، حرَّرها له شرطي مرور كان يراقب إحدى إشارات التوقف في مفترق طرق بالحرم الجامعي بمدينة سان دييغو San Diego بولاية كاليفورنيا California الأمريكية،

وكتب في ذلك بحثًا من أربع صفحات مدعومًا بالقوانين الرياضية والرسوم البيانية، نجح به في إقناع المحكمة بوجهة نظره ليصدر الحُكم بالفعل بإلغاء المخالفة والغرامة.

ولم يكتف بذلك، بل نشر بحثه في «مجلة حوليات البحوث غير المُحتملة» Annals of Improbable Research (المجلد 18، العدد 4، 2012) تحت عنوان «برهان البراءة»The Proof of Innocence، ليفوز البحث بجائزة قدرها 400 دولار كان من المفترض تغريمها له!

استخدام الفيزياء ضد مخالفات السير

كان «كريوكوف» –وفقًا لسجلات المحكمة– قد تم إيقافه في السابع عشر من مارس سنة 2011، حيث كان يقود سيارته في حرم جامعة كاليفورنيا في سان دييغو UCSD، وحُررت ضده مخالفةً لفشله في التوقف عند الخط المُحدد لإشارة المرور (وكان وقتها يعمل باحثًا في «الجمعية التعاونية لتحليل بيانات الإنترنت» CAIDA بالجامعة ذاتها،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكنه أصبح منذ سنة 2014 أستاذًا مشاركًا في أقسام الفيزياء والرياضيات والهندسة الكهربائية وهندسة الحاسبات بجامعة نورث إيسترن Northeastern University بولاية ماساتشوستس Massachusetts الأمريكية)، وقد تم الاستماع إلى شهادته ودفاعه وإصدار الحُكم في السابع والعشرين من يوليو في السنة ذاتها.

أشار «كريوكوف» في بحثه إلى أن ثمة ثلاثة عوامل فيزيائية مجتمعة حالت دون أن يتمكن الشرطي من موقعه من الحكم على ما إذا كانت السيارة قد توقفت أم لا عند إشارة التوقف، الأمر الذي يجعل رؤيته للواقعة غير دقيقة بالمرة.

العوامل الفيزيائية التي حالت بين الشرطي وكريوكوف

استخدام الفيزياء ضد مخالفات السير

الأول أن الشرطي من موقعه لا يستطيع قياس السرعة الخطية للسيارة (مقدار التغيير في الإزاحة بين جسم ونقطة ثابتة = المسافة المقطوعة/ الزمن)، وإنما سرعتها الزاوية (معدل دوران الجسم حول نقطة مركزية مختارة،

أي معدل التغير في النزوح الزاوي بالنسبة إلى الأصل، كما في حركة دوران شفرات المروحة أو دوران العجلات)، وهو ما يحدث حين نحاول تقدير سرعة جسم (قطار أو شاحنة)، إذ يبدو بطيئًا إذا نظرنا إليه عن بُعد، بينما يبدو سريعًا حين يكون قريبًا منا.

وفي حالة «كريوكوف» كانت سيارة الشرطة تبعد عن مربع إشارة التوقف ثلاثين مترًا، ومن ثم، فمع اقتراب سيارة «كريوكوف» من المربع بسرعة خطية ثابتة ستبدو للشرطي وكأنها متسارعة تدريجيًا.

أما العامل الثاني فيتمثل في أنه في حالة اقتراب السيارة بسرعة خطية ثابتة، ثم توقفها فجأة عند خط التوقف ستبدو سرعتها الزاوية وكأنها بازدياد كبير.

وأما العامل الثالث فهو وجود إعاقة للرؤية خلال زمن قصير (موضوع خارجي أو سيارة أخرى مثلًا) في اللحظة التي تقترب فيها السيارة من خط التوقف.

لم يكد «كريوكوف» ينشر بحثه سنة 2012 حتى تداولت وسائل الإعلام قصته كنموذج لتوظيف العلم في القضايا والمشكلات اليومية، وفي مقابلته مع صحيفة «ذا تايمز» The Times البريطانية، صرَّح قائلًا: «الحسابات بسيطة للغاية؛ هذه فيزياء ورياضيات يدرسها طلاب المرحلة الثانوية! كل ما تحتاج إلى معرفته هو شيء من الميكانيكا الكلاسيكية وقليلٌ من الهندسة.

القضاء يُنصف الفيزياء من رجل المرور

لقد استغرقت الحسابات من خمس إلى عشر دقائق، ولم تستغرق كتابة الورقة البحثية سوى بضع ساعات». ثم أضاف مازحًا إن كتابة الورقة والدفاع عن نفسه أسرع بكثير وأقل تكلفة من البحث عن محام ودفع أتعابه!

ورغم تصريح «كارين رايلي» Karen Riley (مفوضة المحكمة العُليا في سان دييجو، والتي أصدرت الحكم) بأن حُكمها ببراءة «كريوكوف» لم يكن مبنيًا في جوهره على تفسيره الفيزيائي، بل لأن شرطي المرور الذي حرَّر المخالفة لم يكن بالفعل قريبًا من موقع التقاطع بما يتيح له الرؤية الجيدة، وتأكيدها بأن الغرامة لم تكن 400 دولار، وإنما 235 دولار فقط.

إلا أن الواقعة في حد ذاتها تظل بُرهانًا على مكانة العلم قبل أن تكون بُرهانًا على البراءة، وما يستوقفنا حين نسردها الآن هو سلوك «كريوكوف» أولًا كعالم، ثم استماع القاضية له والحكم ببراءته، الأمر الذي يمكن «كريوكوف» من مخاصمة الشرطة والمطالبة بالتعويض، ويدفع الشرطة في الوقت ذاته إلى تطوير آليات عملها.

تخيل معي لو كانت هذه الواقعة في أي بلد عربي، تخيل معي سلوك المواطن (الذي يدفع الغرامة مذعنًا ولو كان بريئًا، حتى ولو كان عالمًا)، وتخيل معي رد فعل القاضي إزاء من يقدم له بحثًا علميًا لإثبات براءته من مخالفة مرورية، ألا قاتل الله الجهل!

اقرأ أيضاً:

العقل والعِلّية

تطور مهنة القضاء الواقف “المحاماة” في الحضارة اليونانية القديمة

العلوم النظرية والعلوم التطبيقية.. أيهما أهم؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية