«إيغون شيلي».. حين يصطدم الفن بالمرض!
«إيغون شيلي» Egon Schiele (1890 – 1918)، فنان نمساوي من أبرز وأندر فناني أوائل القرن العشرين، وأحد هؤلاء الذين عبّروا عن تهالك الجسد ذاتيًا، وانسحاقه داخل فقاعةٍ حياتية سريعة التلاشي. وُلد في محطة قطار مدينة تولن بالنمسا على نهر الدانوب، فظل القطار في مخيلته رمزًا لرحلة الحياة القصيرة، رحلة حياته التي لم تستغرق أكثر من ثمانية وعشرين عامًا، لكن تأثيرها امتد بإلهامٍ صارخ إلى كثير من مُبدعي الفن التعبيري على امتداد العالم. الغريب
أنه كان يُدرك هذا التأثير، فالمعاناة البشرية واحدة، وبُكاء الجسد واحد، وانتفاضة الروح داخله واحدة، وهكذا كتب في رسالة إلى والدته سنة 1913 يقول: «كل الأشياء الجميلة الرائعة تلتقي وتتحد في أعماقي، سأكون الثمرة التي تترك وراءها أثرًا حيًا حتى بعد جفافها»!
نشأته ومسيرته الفنية
حين كان صبيًا، كان «شيلي» مفتونًا بالقطارات، وكان يقضي ساعات طويلة في رسمها، لقد استغرقته رسوماته لدرجة أن والده –المُحبط لأن ابنه لم يكن مهتمًا بمتابعة مساره الوظيفي ذاته– انتهى به الأمر إلى تمزيق كراسات تلك الرسومات! و
عندما تُوفي والده، كان «شيلي» يبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، فتولى رعايته عمه الذي كان يعمل أيضًا في السكك الحديدية، ولحُسن حظه، لاحظ عمه مهاراته الفنية، فسمح له على مضض بمتابعة الرسم.
وفي سنة 1906، تقدم «شيلي» بطلب للالتحاق بمدرسة الفنون والحرف في فيينا، لكن ولعه بالجسد اصطدم بالطابع المُحافظ للمدرسة، فتركها مُحبطًا ليقيم أكثر من معرض بمشاركة آخرين في السنوات اللاحقة.
مع ذلك، تعرض «شيلي» لانتقادات مجتمعية حادة نظرًا لما انطوت عليه رسوماته من أشكال صُنفت كإباحية، حتى لقد تم القبض عليه سنة 1912 بتهمة نشر مواد فنية إباحية بلغت أكثر من مائة لوحة تمت مصادرتها جميعًا، وبعد أن قضى في السجن ما يقرب من شهر، أصدر القاضي حُكمًا بإحراق إحدى لوحاته أمام عينيه!
بعدها بثلاث سنوات تزوج من محبوبته «إديث» Edith، حيث كانت الحرب العالمية الأولى في أوجها. ولم تمض سوى ثلاثة أيام فقط على زفافهما حتى تم استدعائه لأداء الخدمة العسكرية في براغ Prague، ولحقت به زوجته لتقيم في فندق بالقرب من سكنه العسكري، وهو ما شجعه على الاستمرار في إقامة معارضه الفنية، خصوصًا رسوماته لأسرى الحرب الروس، حتى لقد خصص له قائده مخزنًا مهجورًا ليعمل به كاستوديو.
وباء الإنفلونزا يقضي على حياة شيلي وأسرته
وفي سنة 1918، وبينما كان «شيلي» في أوج إبداعه الفني، اجتاح وباء الإنفلونزا أوروبا ليودي بحياة عشرات الملايين من الناس. بدأ الوباء في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، وحصد من الأرواح عددًا أكبر بكثير مما حصدته الحرب المُدمرة.
وفي أكتوبر من السنة ذاتها أصيبت زوجته «إديث» بالمرض، وكانت حبلى في شهرها السادس بطفلهما الأول، لكن الموت لم يُمهلها لتضع وليدها فقضت نحبها تاركةً له حُلمًا اختطفه المرض، وبعد موتها بثلاثة أيام لحقها «شيلي» متأثرًا بإصابته بالمرض ذاته، وكأنه أراد للحُلم أن يتحقق في عالم آخر!
خلال هذه الأيام الثلاثة رسم «شيلي» لوحته الأخيرة غير المُكتملة: «الأسرة» The Family؛ اللوحة التي وُصفت بأنها أكثر لوحاته هدوءًا وحُزنًا، وفيها يُصور نفسه وزوجته وطفلهما الذي لم يكتمل خروجه إلى الحياة، ويُجسد مدى إحساسه بالألم إزاء موتٍ وشيكٍ ومأساة منتظرة ورحلة إلى النهاية! تُرى ما الذي سيرويه الفن عن مأساة الإنسان في زمن فيروس كورونا؟
اقرأ أيضاً:
ما أكثر الناس، وما أندر الإنسان!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا