قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الخمسون

المدرسة المشَّائية: (48) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [4]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): الرؤية الرياضية إلى الوجود

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 49) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [3] تقسيم العلوم والرسائل.

نواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

 العدد: رؤيةٌ كونيةٌ رياضيةٌ إلى الوجود

اقترحتُ أن مشروع إخوان الصفا الفكري بعده مشروعًا إنسانيًا لا فرق فيه بين الفرق. وهو يمثل رؤية كونية مبنية على منجزات العلوم. إنه مشروع العودة إلى الحكمة القديمة الخالدة والبحث العقلاني عن الحقيقة، بإخراج “لب المعاني” و”الأغراض القصوى” لمؤلفات الحكماء والعلماء، فأخرجوا لنا “رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء”، فكانت أول دائرة معارف عالمية، حفظت جهودَ الجنس البشري، وضمت العلومَ والفلسفاتِ حتى عصرهم.

وكل رسالة من رسائل إخوان الصفا مقدمة لعلمٍ بعينه، تبين غرضه الأقصى، وتحوله من موضوعه المادي إلى هدفه الرُوحي، كما يقول جيوم ديفو. وهدف إخوان الصفا الروحاني: تحقيقُ الكمالِ الإنساني في الدنيا، والنجاة والفوز بالجنة في الآخرة.

إن أول قسم من أقسام الفلسفة عند إخوان الصفا القسم الرياضي (التعليمي) الذي جعلوه أولَ أقسامِ رسائلهم: الرسائل الرياضية التعليمية. ويضم هذا القسمُ أربعَ عشرةَ رسالةً تبدأ بالعدد.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فلماذا بدأَ إخوانُ الصفا ببناء رؤيتهم الكونية الرياضية إلى الوجود بالعدد؟

العدد: عِلْمٌ عالميٌ: منه يبدأُ طلبُ الحكمةِ (الفلسفة)

أ‌. الإنسان حيوانٌ قادرٌ على العد

تختلف لغاتُ العالم باختلاف الأمم فلكل أمة لغةٌ خاصةٌ بها. لكن تتفق الأمم كلُها على العدد، فعلم العدد علم عالمي لا يختلف باختلاف اللغات. وإذا كان الإنسان عند أرسطو “حيوان ناطق” فإن الإنسان عند الفيثاغوريين وإخوان الصفا “حيوانٌ قادرٌ على العد”.

إذًا:

لا بد أن يبدأَ الطالبُ بدراسةِ علم الحساب (الأرثماطيقي) الذي يعني: جمع العدد وتفريقه، لأن العددَ علمٌ عالمي، ولا يختلف باختلاف اللغات بين الأمم، لذلك كانت معرفةُ العدد أولَ درجات الفلسفة.

ب‌. أول درجات الفلسفة: معرفةُ العدد

وقد رأى الإخوان في علم العدد “شبه المدخل والمقدمات” لرؤيتهم الكونية حول الله والإنسان والعالم. فأول درجات الفلسفة معرفة العدد. وفي ذلك يقول الإخوان: ” اعلم أيها الأخ البار الرحيم، بأنه لما كان من مذهب إخواننا الكرام، أيدَّهم اللهُ، النظرُ في علوم الموجودات التي في العالم جميعها، وعن كيفية حدوثها ونشوئها عن علةٍ واحدةٍ، ومبدأٍ واحدٍ، من مبدعٍ واحدٍ، جلَّ جلالُه، ويستشهدون على بياناتها بمثالات عددية، وبراهين هندسية، مثل ما كان يفعله الحكماء الفيثاغوريون، احتجنا أن نقدمَ هذه الرسالة (الرسالة الأولى: العدد) قبل رسائلنا كلها، ونذكر فيها طَرَفًا من علم العدد وخواصه التي تسمى “الأرِثْماطيقي” شبه المدخل والمقدمات، لكيما يسهُل الطريقُ على المتعلمين إلى طلب الحكمة التي تسمى الفلسفة، ويقرُب تناولها للمبتدِئين بالنظر في العلوم الرياضية”.

لقد بدأتْ رسائلُ الإخوان بالرياضيات، وخصصت لها الرسائل الست الأولى، وبدأتْ الرياضياتِ بعلم العدد، ثم طبقتْ علمَ العدد على الإلهياتِ، في الرسالتين الثانية والثلاثين، والثالثة والثلاثين. وهذا يعني أن للعدد خصائصَ رُوحيةً عقليةً.

العدد: علمٌ رياضيٌ ذو خصائصَ رُوحانيةٍ عقليةٍ

كما أن العدد علم رياضي فله صفاته وخصائصه الروحانية المتعالية على الحس والحواس. لذلك بلغ العددُ مقامًا رفيعًا في الرؤية الكونية لإخوان الصفا، “لأنه مركوزٌ في كل نفس بالقوة”، إذ تابعوا رؤية فيثاغورس وتطوراتها في الفيثاغورية الجديدة، التي ازدهرت في القرن الأول والثاني الميلادي، خصوصًا عند نيكوماخوس الجيراسي “Nicomachus of Gerasa” (راجع: د. شرف الدين عبد الحميد: بيثاغوراس: لاهوت الرياضيات، مع نص الشذرات المنسوبة إلى بيثاغوراس وبعض البيثاغوريين باليونانية). وتابعوا رأي فيلسوف العرب الكندي الذي بين في رسالته “في كمية كتب أرسطو” أن تبدأَ الدراسةُ الفلسفيةُ بالعلوم الرياضية الأربعة: العدد والهندسة والنجوم والموسيقى.

العدد: مبدأُ معرفةِ الإنسان نفسه وربه

أ‌. العدد: المدخل إلى علم النفس

إن العدد هو المدخل إلى علم النفس. ومن عرف العدد عرف نفسه ومن عرف نفسه عرف ربه. يقول الإخوان: “العاقل الذَّهِينَ (قوي الذهن) إذا نظر في علم العدد وتفكر في كمية أجناسه وتقاسيم أنواعه وخواصَ تلك الأنواع، علم أنها كلها أعراضٌ، وجودُها وقوامُها بالنفس، فالنفس إذًا جوهرٌ، والأعداد أعراضٌ فيها”. “وإذا كان أول درجة من النظر في العلوم الإلهية معرفة جوهر النفس، والبحث عن مبدئها من أينَ كانت قبل تَعلُّقها بالجسد، والفحص عن مَعادها إلى أينَ تكونُ بعد فِراق الجسدِ الذي يسمى الموتَ، وعن كيفية ثواب المحسنين كيفَ يكونُ في عالم الأرواح، في دار الآخرة، وخصلةٌ أخرى لما كان الإنسانُ مندوبًا إلى معرفة ربه، ولم يكن له طريقٌ إلى معرفته إلا بعد معرفة نفسه، وجب على كل عاقل طلبُ علم النفس ومعرفةُ جوهرها وتهذيبها، وآياتٌ كثيرةٌ في القرآن ودلالاتٌ على وجود النفس وعلى تصرف حالاتها، وهي حجةٌ على الجِرْميين (الماديين)، المنكرين أمرَ النفس ووجدانها (وجودها)”.

ب‌. العدد: البرهان الرياضي على وجود النفس

إن الإخوانَ يؤسسون علمَ النفس على علم العدد، وذلك لأن البرهان على وجود النفس برهان رياضي. العددُ عَرَضٌ (كالتفاحة الحسية مثلًا متصلة بالعدد واحد). والعدد يمكن تصوره مجردًا عن كل حس (تتصور مثلًا المليون والمليار دون أن تربطه بمليون أو مليار تفاحة!) وإذا كان العددُ عَرَضًا لا يقوم بذاته فإن جوهره النفس، أي يقوم بالنفس، فعلم العدد هو الذي يوصلنا إلى معرفة النفس.

إذًا:

النفس موجودة لأنها تدرك العدد. فكما أن العدد عَرَضٌ للتفاحات، فإن العدد مجردٌ عن المعدود (التفاحات مثلًا) هو عَرَضٌ للنفس، فهي التي تعدُّ المعدودات كلَها، وفي الوقت ذاته فإن العدد رغم كونه عرضًا للنفس فهو –عند إخوان الصفا– أصلُ الموجودات كلها.

وإذا ثبتتْ معرفةُ النفس بطريق العدد، فإن أول الأعداد هو الواحد. وعن طريق الواحد حاول إخوان الصفا إثباتَ وحدانية الله تعالى رياضيًا.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: [5]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): إثبات الوحدانية رياضيًا.

اقرأ أيضاً:

الجزء السادس والأربعون من المقال

الجزء السابع والأربعون من المقال

الجزء الثامن والأربعون من المقال

الجزء التاسع والأربعون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج