قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع والأربعون

المدرسة المشَّائية: (45) إخوان الصفا: وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [1] المقدمة: مشروعٌ إنسانيٌ لا فرقَ فيه بين الفِرَق

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشات السابقة، عن الفلاسفة المشائين: الستة الأكثر شهرةً، سواءً في المشرق الإسلامي: الكندي [راجع: ج 4، ج 5، ج 6]، والفارابي [راجع: ج 7، ج 8، ج 9، ج 10، ج 11، ج 12]، وابن سينا [راجع: ج 13، ج 14، ج 15، ج 16، ج 17،ج 18، ج 19، ج 20، ج 21، ج 22] أم في المغرب الإسلامي: ابن باجة [راجع: ج 23، ج 24، ج 25، ج 26، ج 27]، وابن طفيل [راجع: ج 28، ج 29، ج 30، ج 31، ج 32، ج 33، ج 34]، وابن رشد [راجع: ج 35، ج 36، ج 37، ج 38، ج 39، ج 40، ج 41، ج 42، ج 43، ج 44، ج 45، ج 46].

لكن ليس هؤلاء الستة الكبار هم فلاسفة المشائين كلهم، بل يوجد فلاسفة آخرون، وإن كانوا أقل شهرةً إلا أنهم ليسوا أقل أهميةً وإبداعًا فلسفيًا. وحتى نقتربَ من تصورٍ أكثر رحابةً وسعةً للفلسفة الإسلامية وفلاسفة الإسلام، علينا ألا نغفل ذكرَ بقية الفلاسفة بخاصة الذين أُخرجتْ كتبُهم ورسائلُهم الفلسفيةُ من غياهب المكتبات وحُققتْ ونُشرتْ، وهو جهد عظيم ومشكور للباحثين المعاصرين في الفلسفة الإسلامية. ولا تزال مكتبات العالم تعدنا بمزيد.

لنبدأ –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ بجماعة فذة في تاريخ الفكر الإسلامي: إخوان الصفاء وخلان الوفاء وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

إخوان الصفا، وكتابهم “رسائل إخوان الصفا” (الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996)

إخوان الصفا جماعة فلسفية إسلامية تأسستْ وازدهرتْ في البصرة (أو في غيرها!)، غالبًا في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي: قرن النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي (أو قبل القرن الرابع أو بعده!). ضمت أسماءَ زيدٍ بن رِفاعة، وأبي سليمان محمد بن مَعشر البِسْتِيّ، ويعرف بالمَقدِسي، وأبي الحسن علي بن هارون الزَّنْجانيّ، وأبي أحمد المهرَجانيّ (أو النهرجوري)، والعوْفيّ (وتوجد أسماء أخرى مقترحة لتأليف الرسائل غير هذه الأسماء!).

وهؤلاء لا نكاد نعرف شيئًا عنهم إلا ما حكاه عنهم معاصرُهم الفيلسوفُ ومؤرخُ الفلسفة أبو سليمان المنطقي السجستاني (ت 371 هــ)، في كتابه “صوان الحكمة”. وكما روى تلميذه أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ)، في كتابه “الإمتاع والمؤانسة”. وقد خصص التوحيدي، للحديث عن إخوان الصفا، الليلةَ السابعة عشرة من ليالي الإمتاع والمؤانسة الماتعة الممتعة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هُوّية إخوان الصفا كما أقترحُ: مشروع إنساني لا فرق فيه بين الفرق

لم يختلفْ الباحثون بشأن هُوّية جماعةٍ كما اختلفوا في هُوّية إخوان الصفا، فهم: معتزلة وشيعة إسماعيلية، باطنية مؤولة ومناطقة لم يأخذوا من المنطق إلا البرهان، ملاحدة وصوفية، فرقة كلامية وجماعة فلاسفة ضد الفرق الكلامية كلها، من دعاة المادية ومن ممثلي المثالية، وجامعون بين المادية والمثالية، قادة العقل الظلامي المستقيل في الإسلام وممثلو الهرمسية ومنتجاتها اللا عقلية وقادة التنوير والعقلانية، جماعة سياسية تسعى إلى الحكم والسلطة، وجماعة مثقفة لم يستهدفوا الحكم قط، حشو الفلسفة وعاميو الفلاسفة وعلماء تنويريون وفلاسفة مجددون تقدميون!

كل باحثٍ يستطيعُ أن يقتطعَ من نصوصهم ويتقوَّلَ عليهم ما شاء له التقول. والأمر الذي لم يختلفْ عليه أحدٌ، لا من مبغضيهم ولا من محبيهم، أثرهم الكبير العميق على مسيرة الفكر والفلسفة في العالم الإسلامي، وقد اهتم بهم وبدراسة فلسفتهم البحَّاثةُ في الشرق والغرب.

لم تكن جماعةُ إخوان الصفا –كما أقترحُ– فرقة سياسية إسماعيليةً (كما يذهب كثير من الباحثين)، بل مارسوا الفكر السياسي كما مارسه أفلاطون والفارابي: يوتوبيا إنسانية حالمة. ولم يكونوا دعاةً للعقل المستقيل في الإسلام، بل جمعوا علوم الإنسان كلها حتى عصرهم، وليسوا تنظيمًا سريًا باطنيًا، بل أنكروا ذكرَ أنفسهم وأخفوا أسماءَهم توكيدًا على جماعية مشروعهم، وطلبًا لغايةٍ رأوها: إرضاء الله بنشر العلم والفلسفة، وتطهير الشريعة من تدنيس جهالات الجهال، وضلالات الضلال، بغسلها بالفلسفة، التي هي حاوية الحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية، على حد تعبير التوحيدي.(وهذا هو السبب البسيط الذي نراه سببًا لسرية الإخوان التي حيرت الباحثين، والأسبابُ البسيطةُ لا تقنع أكثرَ الناس!). يقول إخوان الصفا: “إننا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفًا من سطوة الملوك ذوي السلطة، ولا حذرًا من شغب جمهور العوام، لكن صيانة لمواهب الله عز وجل”. أي: صيانة للعلم والفلسفة النافعة للإنسان، التي وهبها الله تعالى لهم. وأطلقوا على أنفسهم “إخوان الصفاء وخلان الوفاء”، فهم إخوةٌ ضد كل عصبية دينية أو مذهبية أو سياسية أو عرقية، إخوة إنسانية فيها الأخ الكامل: “الفارسي النسبة، العربي الدين، الحنفي المذهب، العراقي الآداب، العبراني المخبر، المسيحي المنهج، الشامي النسك، اليوناني العلوم، الهندي البصيرة، الصوفي السيرة…”. وليس هؤلاء المذكورين إلا المكونات الحضارية لمجتمع عصرهم.

إنهم –كما أقترحُ– مصلحو عصرهم ومثقفو زمانهم الذين أحسوا بواجبهم الحضاري فأدوا واجبهم وقاموا بأمانتهم، فكتبوا الرسائل لإصلاح الراعي والرعية، ودفع الظلم بالفلسفة والثقافة، وذم دولة الشر حيثما كانت، ومدح دولة الخير أينما وجدت، لخير البلاد كلها والعباد كلهم، ولخير الناس كلهم، تلك الرسائل التي “بثوها في الوراقين (دور نشر الكتب وتوزيعها في عصرهم)، ووهبوها للناس” أجمعين، وارتفعوا بها عن التعصب والتفرق والتقاتل وتبادل التكفير والتفسيق والتبديع الذي كان يسود عصرهم، ولا يزال يسود عصرنا. فما أحوجنا إلى حكمتهم هذه الفلسفية الإنسانية الكونية المتسامحة. وما أحوجنا إلى سعة أفقهم التي استوعبت الكون كله. لنقتبس من نور إنسانية القرن الرابع الهجري شعلة علها تضيء بعض ظلمات عصرنا الحاضر. إنهم –كما أقترحُ– مشروعٌ إنسانيٌ لا فرق فيه بين الفرق والمذاهب والاعتقادات، حتى لو تمذهبَ –هذا المشروع– بمذهبٍ ما، أو اعتقدَ بعقيدةٍ معينة: فكرية أو دينية أو سياسية.

رسائل إخوان الصفا: تأليفٌ علميٌ موسوعيٌ لا مذهبي

إخوان الصفا

لم تعرفْ الفلسفةُ الإسلاميةُ التأليفَ الفلسفي الفردي فقط، أعني التأليف الذي يكتبه فيلسوف بعينه، يؤلف كتابًا أو مجموعة كتب باسمه الشخصي، ووفقًا لرؤيته هو الكونية إلى الوجود، بل عرفت كذلك التأليفَ الجماعيَ الفلسفيَ، الذي يُنسب إلى مجموعة من المؤلفين، يعبر عن رؤية جماعية كونية إلى العالم. لقد عرفت الفلسفة الإسلامية التأليف الجماعي لجماعة إخوان الصفا ورسائلهم التي كتبوها جماعةً، على فترات متصلة، لا دفعة واحدة، التي أعطوها عنوانًا جماعيًا: “رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء” فكانت أول دائرة معارف عالمية، ضمت العلوم والفلسفات حتى عصرهم، وشملت ما هو ثابت في كل دين وعام في كل ملة ومذهب.

لم يكونوا، كما وصفهم الإمامُ الغزالي في كتابه “المُنْقِذ من الضلال”، أصحابَ “فلسفة ركيكة”، ولم يكونوا “حشو الفلسفة”، بل كانوا جماعة (ولا أقول فرقة!) فريدة، لا شيعية ولا سنية، بل إنسانية كونية، طلبوا الحق فأصابوا منه نصيبًا، ولم يتعمدوا الباطلَ، وإنما وقع لهم كما وقع للفلاسفة كلهم من قبلهم ومن بعدهم. وحسبُ الفيلسوف السعي إلى الحق وليس عليه إدراكه. والفلسفة عمل نقدي متصل، عبر العصور، لا إلى نهاية.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأ رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [2]: مُنجزات العلوم والتعاون الفلسفي بين البشر.

اقرأ أيضاً: 

غموض الحدود المكانية بين الفلسفة والجغرافيا

حياة الفلاسفة: رَفَه الجهل ومعاناة الحكمة

هل يقبل كبار علماء الإلحاد ذلكم التحدي؟!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج