أدركت الإجابة
منذ أسبوعين، وبعد أن استيقظت خالفت تقاليدي الصباحية بأن أمسكت بـريموت التلفزيون وصرت أغير في القنوات على غير عادتي، ومن ثم وقفت كي أعد كوبًا من الشاي، وعندما عدت استقبلني إعلان لـ”كومباوند” في رأس الحكمة فلم أنتبه، لكن ما أجبرني على الانتباه كانت أغنية الإعلان، إذ غنى مدحت صالح بكل إحساس “أنا عايز أعيش في كوكب تاني” فلم أكترث، لكن ما صفعني في صباح هذا اليوم كانت تلك الثواني القادمة، قدم لنا المخرج عائلة سعيدة تضحك في إحدى الڤيلات المطلة على البحر، وارتفع صوت مدحت “فيه الإنسان لسا إنسان”، جلست بلا حراك، أفكر ولم يقاطعني سوى صوت الماء على النار.
خرجت من بيتي وركبت سيارة أجرة وفي منتصف الرحلة المتجهة إلى الجيزة عبورًا بالطريق الدائري، مررنا بجوار رجل مرتمٍ على جانب الطريق بعد أن صدمته سيارة وهربت، غطاه الناس ووقفوا حوله صامتين، صابرين، كأنني رأيت تماثيل واقفةً تخلو من الحياة تتوسطهم بركة ماء غطاها العفن الأخضر بعد أن كانت تعكس وجه الخير، بكت الفتاة التي جلست على يميني على الفور، ولم أقوَ سوى أن أخرجت منديلًا وناولتها إياه، دون أن أنطق حرفًا أو أنظر حتى إليها، وظلت تبكي إلى أن وصلنا، وظللت أنا صامتًا، فكنت أنا تمثالًا وسط التماثيل.
يجب أن يكون الإنسان موضع احترام
في الساعات الباكرة بعد منتصف الليل، جلست في ميدان “عبد المنعم رياض” أسفل التمثال خلف المتحف المصري، بقعة رائعة للمراقبة، فيمكنك أن تقرأ قصصًا بالنظر حولك، رأيت الناس يمشون في صمت، ينظرون في الأرض كأنما الأرض لها جاذبية خاصة تسحب عيونهم ورؤوسهم إلى أسفل، ناظرين لها طمعًا في أن تنقذهم، وشوقًا لكي ينقذوها، وحزنًا لصعوبة الأمرين، وهنا رجل قد افترش قطعة من قماش ثقيل ونام فوق مقعد بجوراه ما تبقى من وجبة طعام تركها شخص ما، وآخر ينام على الأرض الصخرية دون أن يفترش شيئًا، وآخر يحاول سرقة تلك الوجبة ليقتل جوعه.
ليعود غناء مدحت صالح في أذني، وأتذكر جملة للكاتب ماكسيم جوركي إذ قال: “يجب أن يكون الإنسان موضع احترام لا موضع شفقة، فالشفقة مهينة”.
أين الإنسانية؟
فأتساءل، ماذا حدث للإنسان لكي لا يصير إنسانًا؟ ومن له الحق في تحديد الفرق؟
وكيف أكون إنسانًا؟
هل أشتري “ڤيلا” في رأس الحكمة؟
كم تساوي حياة هذا الكائن غير البشري الذي قتل؟
كم تساوي تلك الوجبه الملقاة أرضًا؟
كم الفرق بينها وبين سعر هذا الكائن وسعر “الڤيلا”؟
لماذا أصبحنا كالتماثيل نقف صامتين بلا حراك؟
أليس مصير التمثال بأن يحطم بيد رجل عظيم؟
من سينقذ الأرض؟ ومن ستنقذه فتنتشله من سجنه الدنيوي؟
متى كفت تلك الفتاة عن البكاء في هذا اليوم؟
لماذا بحق الشِعر شربت الشاي صباحًا وفيه كثير من السكر؟
لماذا نضع السكر؟
إنسان اليوم المادي
أدركت الإجابة: الإنسان في هذا العصر كما تقول اللافتات والإعلانات الممولة والقرابين المتداولة لخدمة البنوك: إنه تعريف يطول شرحه في كتب التاريخ، الإنسان ليس بشيء قليل، لكنه كثير وكثير وكثير من المال.
فلتعمل يا أيها العبد وتستمر في العمل حتى تشتري سيارة فارهة، وتذهب حيث مكتب العقارات لتشتري “فيلا” مطلة على البحر متحمسًا فتصدم إنسانًا بسيطًا فتقتله، فتهرب خوفًا وقلقًا على ماضيك ومستقبلك، ناسيًا ماضيه ونهايته.
إن كان هذا هو الإنسان في عصر خطوط الطيران والدبابات المضادة للأطفال، العصر المضاد للأطفال، فأرفض أن أكون إنسانًا.
وسأظل أوزع المناديل إلى أن أموت.
مقالات ذات صلة:
عندما تتسع الفجوة بين القيم الأخلاقية والمتطلبات المادية
لماذا الفكر المركسي المادي خطر؟!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا