العُنْفُ المُقَدَّسُ .. الجزء الثاني عشر
أنْ تفهمَ فتنةٌ - العنف بين كثافة موضوع الفهم ولطافة أدوات الفهم
إن اختبار الله عز وجل للإنسان بالفهم –في عمقه– يتقلب بين مادتَيْ اختبارٍ:
الأولى: ذاتية، تكون بين الإنسان وذاته من جهة قدرته على تجاوز تأثير القيد الوجودي (البيئة المحيطة، وما ينبثق عنها من قيود)، حالَ دفعه للقيد المعرفي (الجهل)، وهذه الجهة من الاختبار أفردتُ لها الكلمة الماضية.
الثانية: موضوعية، تكون بين الإنسان وموضوعه الذي يتوجه إليه بالفهم، إذ إن الإنسان –في سعيه نحو فهم موضوع ما– مختبر بأمرين متنازعَينِ يُشكّلانِ مادةَ اختبارِه هنا، وهما:
(1) كثافة موضوعه الذي يتغياه بالفهم.
(2) لطافة أدواته التي يعتمدها في تحصيل هذا الفهم.
فبقدر خروجه مما تفرضه عليه أدواتُ الفهم بلطافتها ومعانقته لـموضوع الفهم بكثافته يكون نجاحه في هذا الاختبار، وسأبيّن هنا حقيقة هذا الاختبار بتفصيل هذينِ الأمرينِ المتعارضينِ، وهما: كثافة موضوع الفهم، ولطافة أدوات الفهم.
أولًا: كثافة موضوع الفهم
إن كثافة موضوع الفهم أيًا كان هو، إنما تقع لأسباب ثلاث:
الأول: تعقّد بنية هذا الموضوع، وهو ما يتجلى في تركّبه من طبقات مختلفة، ولكل طبقة منها عناصر متباينة وعلاقات متعددة، وآية هذا التعقد في بنية “موضوع الفهم” تعدد الخطابات المصوغة حوله.
الثاني: التغير والتحوّل الذي يحدث لهذا الموضوع وبنيته نتيجة السياقات المختلفة التي يُدرج فيها، إذ إن اختلاف الأطر والسياقات المحيطة بموضوع ما، مؤثر على طبيعة العناصر والعلاقات المكونة له.
الثالث: تراكم الخطابات المُنتَجة حول موضوع الفهم، وهو ما يُضاعف من تعقيده، ويُنشئ حوله كمًا كبيرًا من الإشكالات.
ثانيا: لطافة أدوات الفهم
إن لطافة أدوات الفهم من إجراءات ووسائل علمية بها نقارب موضوع الفهم تتضح بمعرفة أن عملية الفهم –في عمقها– لقاءٌ بين عالمينِ من طبيعتينِ مختلفتينِ؛ واقع مدروس متصل متحرك، وفكر دارس منفصل ساكن، ووساطة هذا اللقاء ومكانه الإدراك الذي يقع في دائرة الفكر ويتسم بسمته؛ السكون، فيلتقط ذلك “الإدراك الفكري” من “الواقع المتحرك” ما يقع في حيز سكونه، فيُكثّفه في تعريفات وتحليلات وتصنيفات، فتأتي هذه التكثيفات (أدوات الفهم) انعكاسًا لنقاط الثبات التي اتخذها الإدراكُ الفكري مكانًا للرصد أكثر منها تصويرًا لحركة موضوع الفهم المرصود في ذاتها، فيحسب الغافل عن بداية هذا اللقاء، المنغلق فيما انتهى له الإدراك أن السكون الذي تُصوّره تلك الأدواتُ من تعريفات وتحليلات وتصنيفات، هو طبيعة الأشياء المرصودة، ما يدفعه إلى تصور إغلاق الفهم إزاء هذا الموضوع، وما درى أن السكون مضاف لنا لا للأشياء، أو بعبارة أوضح: السكون هو ما تحتاج إليه طبيعتنا الفكرية لا ما تدل عليه طبيعة الأشياء.
معنى المعنى: أن “موضوع الفهم” (الواقع) كثيف يتحرك بشكل متصل، إلى أن نُفكّر فيه بـ”أدوات الفهم” ووسائله الفكرية اللطيفة، فيسكن وينفصل في أيدينا دون أن يسكن وينفصل في ذاته، فما نلتقطه على مرآة فكرنا حالات للأشياء وليست الأشياء بذاتها.
إن هذا التباين بين الفهم بوصفه نظرًا ثابتًا وبين الموضوع بوصفه واقعًا متحركًا، يُحتّم حدوث فجوة بين “الفهم” و”موضوعه” الذي يفترض أن الفهم قام لتصويره، وقد سعى أهلُ العلم إلى سدّ تلك الفجوة من خلال إتباع التحليل، وهو سبب الثبات في النظر، بـالتركيب للأبعاد المختلفة استعادةً منهم لما سكّنه التحليلُ والتصنيف، واستبعده التجريدُ والاختزال، ويأتي هذا التركيب من خلال حركة مزدوجة تقوم بها الذات الفاعلة للفهم، فتتردد هذه الذات بين موضوع الفهم بوصفه أصلًا وبين الفهم بوصفها فرعًا، بغية سد هذه الفجوة، لاستعادة كثافة موضوع الفهم التي ضيعتها أدواتُ الفهم بلطافتها.
وهو ما يعني أني مُلزمٌ بممارسة التعليق لما يأتي به الفهمُ حتى نكون أصحاب تجربة مع موضوع الفهم، بمعنى أنني أضع ما يأتي به الفهمُ بين قوسين إلى أن أكون صاحب تجربة حية مع موضوع الفهم، إن القصد من هذا التعليق ليس الشك أو التوقف بقدر ما هو إعادة مساءلة موضوع الفهم بغية إحضار ما غاب عن صاحب الفهم، وهو ما يعني حركةً دؤوبةً بين الفهم وموضوع الفهم، ألم أقل فيما مضى: إن الفهم جهاد مستمر وليس ترفًا فكريًا؟
إن فكر صاحب هذا الوعي الذي طرحته هنا، مؤسس على مبادئ مضمرة، من الضروري إبرازها، إذ إنها فارقة بين العنيف واللطيف:
(1) التفريق بين كلية موضوع الفهم وجزئية الفهم، إذ إنه وعي يُفرّق بين الظاهرة المدروسة وتصورات الدارسين عنها، معتبرًا الأولى أصلًا للثانية، ومن ثم لا يصح لصاحب هذا الوعي أن يستغني بالفرع عن الأصل، حتى يُساءل الأصل عن صحة ما يدّعيه الفرعُ، وهذا ما لا يعيه العنيفُ جاعلًا من فهمه وموضوع الفهم شيئًا واحدًا.
(2) هذا الوعي مدرك أن كل محاولة للفهم لا بد أن تتسم بقدر من النقص بحكم بشرية صاحبها، ومن ثم فهي تحتاج إلى استكمال عن طريق إعادة مساءلة الأصل (موضوع الفهم)، لإثراء الفهم سواء كان ذلك الإثراء بتعميق هذا الفهم أم باستدراك ما فاته أم بتصويبه، أم بطرح شيء جديد جدّ في الواقع، وهذا ما لا يدركه العنيفُ، فيتصوّرُ فهمَه للموضوع على أنه إغلاق لباب مراجعة الموضوع، ففهمه –في نظره– لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(3) صاحب هذا الوعي بمركزية مساءلته للأصل وعدم انغلاقه في الفرع أوقع في دائرة الاستعداد للتلقي منه إلى دائرة ادعاء الامتلاء، ومن ثم فهو أبعد عن الأمراض النفسية التي يسببها وهم الامتلاء، ويأتي العنف على رأسها، فالمستعد للتلقي من أهل “وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا”، طه، 114، فهو دومًا باحث عن الاستزادة، فهو رب سؤال، أما صاحب ادّعاء الامتلاء فهو من أهل “مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ”، غافر، 29، فهو رب إجابة، أما السؤال فهو –في نظره– غير جائز، إن لم يكن ضلالًا وشكًا.
(4) صاحب هذا الوعي إنسان ينظر إلى حدث الفهم بوصفه أمانة تُراعى لا بوصفه حيازة تُمتلك، بوصفه مادةَ اختبارٍ لا مجالَ اغترارٍ، فهو إنسان متواضع ومتأهب للجديد، وسبب ذلك وجذره –فضلًا عن مسألة التخلق، والتأدب بقيم العلم ومعانيه– أنه يديم النظر في سعة كلية موضوع الفهم ولا ينغلق في ضيق جزئية الفهم، فتنكسر نفسه الأمّارة بالسوء الطامحة للتسيّد أمام عجزها الذي تعاينه إزاء كلية موضوع الفهم، فتخرج نفسُه من وهم السيادة على الفهم إلى حقيقة الرعاية للأمانة (موضوع الفهم)، أما العنيف فيتملكه وهم السيادة بالفهم، فهو دومًا في غرور، وأُذكِّر –تأكيدًا على وعي الفهم بوصفه أمانةً– بأن أحد التفسيرات التي وردت لكلمة: “الأمانة” في قوله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ”، الأحزاب، 72، أنها “العلم”.
المحصلة بعد التفصيل
إذا كانت قدرة المرء على التجرد من تأثير القيد الوجودي تُمثّل أمارةَ صدقٍ من الإنسان تجاه ذاته الفاعلة أثناء إيقاعه لحدث الفهم، فإن قدرة المرء على استيعاب كثافة موضوع الفهم لَهي، أيضًا، أمارة صدق هذا الإنسانِ، بيد أنها هذه المرة تجاه موضوعه الذي يتغياه بالفهم، فأنت بالحرص على التجرد تجاهد نفسك لتغيّرها، وبالحرص على الاستيعاب تجاهد موضوعك لتفهمه، وهكذا دومًا المرء يتقلب في جهاد ذي مجالين؛ الأول: النفس الفاعلة للفهم، والثاني: موضوع الفهم، وبقدر ما ينجح في المجال الأول، يكون نجاحه في المجال الثاني، إذ إن النفس هي العالم مُقطَّرٌ، كما أن العالم هو النفس مُفرَّقةٌ، كما يقول سادتنا من الصوفية، فنجاحك مع النفس أصلٌ لنجاحك مع العالم، وهذه هي الترجمة الحيّة والعلمية التفصيلية لقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”، الرعد:11.
بإيجاز: كلما انحبس الإنسان في محصلة “فهمه” عن الأشياء عنف، وكلما استزاد من العلم بالأشياء ذاتها لطف.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال، الجزء الثالث من المقال
الجزء الرابع من المقال، الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
الجزء السابع من المقال، الجزء الثامن من المقال، الجزء التاسع من المقال
الجزء العاشر من المقال، الجزء الحادي عشر من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا