فن وأدب - مقالاتمقالات

الذين يتوقون إلى العدل والسلام في رواية “أجراس الخوف”

تساوق الكاتب المغربي “هشام مشبال” مع عبارة شائعة وذائعة هي “أجراس الخوف”، وقطفها واتخذها عنوانًا لروايته، لكن أبطال روايته وأحداثها وعمقها ولغتها الفياضة وسياقها الواسع والرؤى التي تنطوي عليها، أعطى العنوان دلالات أبعد من تلك التي اعتدنا استبطانها والتفكير فيها كلما اقتحمت آذاننا هذه العبارة التي لا تشي بالاستسلام للمخاوف بقدر ما تنبهنا لها، حتى يكون بوسعنا أن نتفاداها، أو نقتلها.

تنقسم الرواية الصادرة عن “منشورات الاختلاف ودار الأمان وضفاف بيروت”، التي تقع في 205 صفحات من القطع فوق المتوسط، إلى ثلاثة فصول كتابية تتوزع على ثلاثة فصول ميقاتية؛ “الخريف” و”الشتاء” و”الربيع”، ليوظف المعاني الكامنة وراء هذه المواقيت وكل ما أخذته من حمولات ثقافية ومعرفية عبر الزمن في تحديد مصائر شخصيات روايته، وهي متنوعة في مشاربها واتجاهاتها وانتماءاتها أو تحيزاتها، تجد نفسها في أتون صراعات حادة، بفعل ظروف صعبة وواقع مقبض، يورثها إحباطات مقيمة، ويوقعها في انكسارات متلاحقة.

تحفل الرواية بأبطال حالمين، يتوقون إلى العدل والسلام والبهجة والامتلاء الروحي، لكنهم يحصدون خيبات مستمرة، ويعيشون في ظلمة الأحلام المجهضة، وسط عالم مقبض ينهل منه “مشبال” بانتظام، وينسج خيوط سرده العامر بالتصورات والرؤى الإنسانية والاجتماعية، فروايته السابقة “الطائر الحر”، التي حصلت على الجائزة الأولى للقناة الثانية في المغرب، رسمت ملامح المأساة التي يمر بها جيل، يكاد القنوط يقتله، عبر التقاط أو حالة لهذا الجيل متمثلة في “يوسف”، الذي تخطفه الأحلام إلى آفاق بعيدة لكن الواقع البائس يعيده صاغرًا إلى ما كان عليه لا يبرحه ولا يفارقه، إلا بالدوران حول الذات، وهي مأساة عاشها أيضًا جيل الآباء، الذي سرقته سنوات الانتظار.

أشد مظاهر الخوف في رواية “أجراس الخوف” تجسدها حالة بطلتها “لبنى” الطالبة النجيبة، التي جاءت إلى المدينة من البادية، فاتحة ذراعيها للعلم، وممتلئة برغبة جارفة في ترقية عقلها ووجدانها ومعاشها، متوسلة بالتعليم ليحركها إلى الأمام، وبالنضال السياسي ليأخذ مجتمعها كله خطوات نحو التقدم. وتتمكن “لبنى” بروحها الوثابة المؤمنة بالتغيير من إقناع “عاطف” من أن يشاركها الحلم، بعد أن كان يؤثر الابتعاد عن ممارسة السياسة ومشاركة المجتمع همومه طلبًا للسلامة، أو خوفًا من العقاب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن أحلامها لم تلبث أن تذهب سدى متحطمة على صخرة واقع تحركه قوى غاشمة عمياء، تقصدها بسوء، فتتعرض للاغتصاب، وقبله تفقد يقينها في إمكانية التغيير. واغتصابها، الذي يبدو معادلًا موضوعيًا للقهر والانتهاك الذي يتعرض له المجتمع برمته، يورثها اكتئابًا حادًا، يجبرها على أن تتجرد من أحلامها، وتقلع عن آمالها، وترتضي بالاختباء داخل نفسها بين جدران غرفة مقبضة، حتى تؤذن ساعة رحيلها، ومعها يفقد “عاطف”، الذي ارتكب جريمة اغتصابها، الثقة في إمكانية تبدل الأحوال البائسة، بعد أن فقد الثقة في إنسانيته، وفهم أن خطف الأفراح من قلب فتاة حلمت معه بالأفضل.

يميل الكاتب هنا إلى معمار متوازٍ، أو لنقل عمودين أساسيين لحكايته، إذ تتجاور فيها المشاهد وتتتابع لتقيم بنية الرواية وهيكلها العام، وتمنحها جاذبية نسبية، مسلمًا مقود السرد إلى راوٍ عليم مولع بشرح تفاصيل كل شيء، سواء في وصف معالم البيئة الخارجية، أو أحلام الأبطال وأفكارهم التي يعبرون عنها في حواراتهم المتتابعة، أو استبطان ما يعتمل داخل صدورهم في “مونولوج” متفرق وموزع على بعض الصفحات، يجعل باطن بعض شخصيات الرواية يتمم النقصان الذي تصنعه تدابيرهم الظاهرة، ويفتح النوافذ أمام الخيال والتخييل لتكمل ما تركه الواقع أمام عين الراوي وفهم الذي يلهث وراء التفاصيل الصغيرة. وكل هذا ترسم ملامحه لغة تراوح بين شاعرية وتقريرية، دون أن تفقد في الحالتين جمالها وقدرتها على التعبير عما يريده المؤلف، بلا إسهاب ممل، ولا إيجاز مخل.

لا يكتفي مشبال في طرح الحكاية من مبتدئها إلى منتهاها على التواشج بين الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يشكل سياقًا أو إطارًا لوقائع روايته، بل يغوص أيضًا في دواخل الشخصيات ليظهر تأملاتها وأحلامها، ويكشف تناقضاتها وتقلباتها، وهذا يساعده في تأويل الأحداث المتشابكة، ودفعها إلى الأمام بشكل متماسك، ومنحها صورة منطقية إلى حد بعيد، وإعطاء النماذج البشرية التي تمثل شخصياتها المتنوعة أبعادًا أكثر عمقًا.

إن الخوف في هذه الرواية مركب، أو متتابع في حلقات متصلة، فأبطالها خائفون على مصائرهم، وهم يواجهون واقعًا قبيحًا وينتظرهم مستقبل غامض ومجهول، وفي الوقت ذاته يعتريهم الوجل على مجتمعهم، أو بالأحرى وطنهم، الذي لم يبرأ تمامًا من رواسب زمن الفساد والاستبداد، الذي ترك وراءه أسئلة لم تسعفها حتى الآن إجابات شافية كافية، عما جرى؟ وكيف جرى؟ ومن المسؤول عن جريانه؟ وكيف يمكن الخروج منه بأقل كلفة ممكنة؟

الخوف المركب هنا، خوف مما يعشش في الذاكرة، وما يجري أمام الأعين، وما سيأتي في المستقبل المنظور، خوف من الآخرين، ومن شركاء الوطن. خوف معتق وطافح دفع الكاتب إلى أن يصوره سرديًا، بعد أن اختزنه طويلًا في عقله ووجدانه، لعله يساهم ولو بقدر ضئيل في قتل الخوف، أو على الأقل قرع الأجراس لتنبه كل الآذان إلى وجود الخوف، وضرورة السعي إلى التحرر من ربقته، وربما يؤمن هو بأن الكتابة عن الخوف تخفف من وطأته لدى من يكتب، والقراءة عنه تفعل الأمر نفسه لدى من يقرأ، كأنه يفتح بابًا لصراع دائم ضد كل المخاوف والهواجس التي تسكننا وتطبق على نفوسنا المهيضة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن شخصيات مشبال ليست محض حالات منبتة الصلة عن سياق أوسع، ربما يكون السياق العربي كله، الذي يسكنه الخوف منذ زمن طويل، وحين تمرد الناس عليه بحثًا عن الأمان والسكينة في كنف الحرية، انفتح باب وسيع أمام العنف الحاد، فعاد الخوف أشد مما كان في بعض البلدان.

من أجل هذا تدق تلك الرواية أجراس الخوف لا لتأمرنا بالاستسلام له أو التقهقر أمامه، إنما لتحرضنا على قتله أو التغلب عليه والتقدم إلى الأمام رغم الانكسارات والخيبات.

مقالات ذات صلة:

الخوف والارتجاف

فن صناعة القلق

اضغط على الاعلان لو أعجبك

استشراف الجمهورية الجديدة في أدب توفيق الحكيم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة