فن وأدب - مقالاتمقالات

فن صناعة القلق

ربما يكون ياسر عبد الحافظ قد أعطى، من دون قصد، قارئ روايته المغايرة والمركبة التي وسمها بـ”كتاب الأمان” إذنًا بأن يشارك في تأويل نصها المثير للجدل كيفما شاء، حين خط عبارتها الأولى لتكون: “اختر ما ترى أنه الإجابة الصحيحة مع مراعاة إملائها على كاتب التحقيق”، رغم أنه هنا لا يخاطب القارئ إنما يرسم ملامح حوار صامت بين شخصين، أحدهما محقق يفكر ويملي، والآخر طابع يكتب ما يسمعه على آلة صماء.

القارئ هنا مدعو بكل وضوح إلى القلق والتساؤل وشحذ طاقته العقلية كاملة كي يمضي عبر سطور رواية لا تسعى إلى إمتاعه أو تسليته، إنما مساءلته وإشراكه في الفهم والتفسير وملء الفراغات المتتابعة، والتأرجح بين الحركة والسكون، والتشوف والتعرف، والتفكير والتدبير، وهو يراوح بين “قصر الاعترافات” التابع لجهة سيادية و”مقهى المجانين” في أحد أحياء القاهرة، وربما يسعى إلى الإجابة على الأسئلة الوجودية التي تطرحها شخصيات الرواية، المصحوبة باللعنات: مدون التحقيقات خالد المأمون، والمحقق نبيل العدل، ومصطفى إسماعيل الأستاذ الجامعي الذي صار لصًا محترفًا، يوظف معارفه العميقة وتفكيره العلمي في خدمة مغامراته المفتوحة.

هناك كثير من العبارات التي وردت في هذه الرواية، الصادرة عن دار التنوير بالقاهرة، تبين بجلاء أن كاتبها أراد على لسانه هو وألسنة أبطالها كذلك أن يقاوم الاستسلام للأفكار الجاهزة والمعلبة، وأن ينفض عن نفسه الكسل أمام تصاريف الحياة: “من قال إنه لا بدَّ من وجود قوانين لنلتزم بأن يكون لنا مبادئ؟”، لأن “الفلسفة الحقّة تقودك لخرق القوانين”، ولأن “الذين حفظوا بغباء أنه لا توجد حقائق مطلقة أو نهائية، يريحون أنفسهم بهذا حتى لا يجتهدون في تقديم إجابات”، هكذا نقرأ تلك العبارات المتفرقة في ثنايا النص لنضع أيدينا على الهدف منه، والذي جاء الشكل والمضمون ليحققاه معًا.

لا يسعى الكاتب إلى كتابة بيان ساحر متساوقًا مع الرأي السائد الذي يقول إن “الأدب هو تشكيل جمالي للغة” إنما يصنع سردًا متحررًا من حمولات البلاغة، وفيضان الصور، ودهشة المفارقات، يعتمد على التكثيف والعفوية والإغراق في الوصف أحيانًا والتنقل الحر بين خطين دراميين متوازيين، وتعدد اللسان، والحض المستمر إلى التأني وإعادة القراءة، بعد أن يتم اصطياد القارئ عن طريق جملة استفهامية مفتاحية بالغة الدلالة تقول: “هل تحب الاطلاع على نهايتك، ثم ترتب حياتك وفقها؟”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كما لا ينشغل الكاتب بتحديد زمن صارم للرواية، ولا يجعل همه الأساسي أن نعرفه من سياق يدل عليه أو مضاهاة بين الشخصيات والواقع لنخمنه، قدر انشغاله بصناعة نص مفتوح على أزمنة وأمكنة شتى، بل إن ما يطرحه من أسئلة ومكابدات قد يكون صالحًا لكل الأوقات، التي لم تخل أبدًا من صراع وحيرة. ومع هذا لم يخل النص مع عبارات تدل على زمنه مثل تلك التي تقول: “لعنة الله على الثمانينيات وما ورثناه منها، لا فن، لا موضة، انتهى عهد السياسة والثقافة وبدأ التدين والتقاليد، نفعل ما نريد شرط البسملة والحوقلة”، وهناك وقائع متفرقة تبين أنها تدور في زمان ليس بعيدًا عنا، وإن كانت أمثولة لأزمنة وأمكنة شتى.

أما المكان فيمتد من حي مصر الجديدة حتى مدينة فرعونية قديمة تسمى “بوتو” كانت عاصمة الوجه البحري قبل أن يقوم الملك مينا بتوحيد القطرين، ويعود إلى حي شبرا الشعبي، ليخالط أصنافًا شتى من الناس.

علاوة على هذا يطلق الكاتب العنان للتجريب عبر تفاوت مستويات السرد، وتبادل الأدوار مع الراوي، كأننا أمام مؤلفين للنص أحدهما مستتر والآخر ظاهر، إلى جانب الضن بالاستمرار في إضاءة كل جوانب بعض المواقف والوقائع.

بطل الرواية خالد المأمون الملازم لـ”قصر الاعترافات” الذي يأتي إليه المعترفون تباعًا، ليحكوا أمامه ويدون هو ما يتفوهون به، لكنه لا يقف منه محايدًا إنما يتفاعل معه ويذوب فيه، فيقرر هو الآخر أن يعترف، وأن يروي للعالم عما يدور داخل هذا القصر الغامض. والشخصية المثيرة للجدل في الرواية هي اللص، الذي يقود عصابة مكونة من عشر مجموعات عنقودية، الذي يفلت بسرقات عديدة لكنه لم يلبث أن يسقط في يد الأمن حين يسطو على بيت قائد حرس رئيس الجمهورية، ويظهر التحقيق معه أنه كان يسرق الأغنياء لصالح الفقراء، كما كان يفعل “روبن هود” أو شعراء العرب الصعاليك، ولذا كان يطلب من أفراد العصابة ألا يتصرفوا بصلف وخشونة وإكراه وتبجح مع أصحاب البيوت التي يسرقونها إن وجدوهم في طريقهم.

يمنحنا خالد المأمون فرصة لنتعرف على شخصية هذا اللص المختلف حين يقول: “ومثلما هم الأبطال الأسطوريون فإن شيئًا في وجهه يترك الانطباع بحزن غائر. أدركت ساعتها أن الوصف الذي يرد في الملاحم البشرية عن سمات البطل لم يكن تكاسلًا من مدونيها كما ظننت،إنما، الوجوه تُنحت على حسب الدور المقرر لها لعبه”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هناك شخصية سوسن الكاشف المولعة بالحياة الخالية من كل قيد، ولذا تتمرد على زوجها وتقاليد وقيم المجتمع، وتسقط بعدها في الخطيئة كي تبرهن على أنها حرة، فينعتها الزوج بأنها وقعت تحت سطوة شيطان سرق روحها وإنسانيتها. وفي المقابل توجد حسناء ابنة مصطفى إسماعيل التي تسعى إلى إعادة صياغة “كتاب الأمان”، بحيث يتضمن ما خفي من حكايات عن أبيها اللص.

مقابل هذه الشخصيات المرتبطة بحياة “القصر” في حي مصر الجديدة الذي تقطنه بعض شرائح الطبقة الثرية، هناك شخصيات مرتبطة بحي شبرا الشعبي الذي يقطنه الفقراء ومساتير الناس، يحرص الكاتب على أن تأتي حياتها موافقة للسياق الاجتماعي المحيط بها، فها هو لطفي زادة الذي بدأ حياته عاشقًا لحفظ الشعر وحاول كتابته وينتهي قعيدًا، ويوجد فخري الذي نال شرف لعب الشطرنج مع الملك فاروق وتعادل معه، فتصدرت صورته الصحف، قبل يوم واحد من اندلاع ثورة يوليو 1952، ليلازمه سوء الحظ، كما يلازم كل الذين حوله ممن تنحصر حياتهم بين الذهاب إلى السينما لمشاهدة الأفلام الهندية والجلوس على المقهى لترويض الفراغ والألم.

بذا سنجد الأمان قد تحول بهذا النص إلى خوف وقلق وحسرات دائمة، لا يفلح خيال الروائي في التخفيف من حدتها، ولا يتمكن هو عبر إقحام نفسه في النص مكملًا وشارحًا وسائلًا في فتح أي نافذة للأمل، ولا تفعل ذلك حتى الأفلام الهندية الحالمة والمشبعة بالأساطير المبهجة، فليس بوسع هذا جميعًا تبديد عبارة قاسية جاءت على لسان فخري، تقول: “المرأة مثل شعوبنا تعشق الديكتاتور”.

مقالات ذات صلة:

رواية الجوع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تجربتان في نقد التعصب.. سيرة ورواية

رواية 1984

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة