أبو حزام والثأر الحداثي
مذبحة ثأرية أليمة جرت وقائعها في قرية أبي حزام، محافظة قنا، وراح ضحيتها أحد عشر شخصا مقابل فرد واحد، بخلاف المصابين الذين نقلوا إلى المستشفى في حالات خطيرة، ومنهم من مات بالفعل، بعد أيام ليرتفع عدد القتلى، وأغلبهم لا علاقة لهم بالخصومة الثأرية، وكل ما اقترفوه هو عودتهم إلى القرية بعد قضاء مصالحهم في بندر نجع حمادي.
هذا الحدث استثنائي، لم يحدث في القرية من قبل، رغم أن القرية شهدت وقائع ثأرية تعد بالمئات، ولهذا لا يعبر عن ثقافة القرية، أو على الأصح، لا يعبر عن النظام التقليدي للثأر.
الحدث استثنائي بالنسبة للقرية، وهذا لا يعني التقليل من شأنه، بل العكس هو الصحيح، لأنه ليس استثنائيا على مستوى الصعيد، بل يعبر عن ظاهرة جديدة أطلق عليها اسم “الثأر الحداثي”.
مذابح لا تنتمي إلى نظام الثأر التقليدي
مذبحة أبي حزام صورة طبق الأصل من مذبحة بيت علام، في محافظة سوهاج، والتي جرت وقائعها عندما توجه أقارب المتهمين بالقتل إلى سوهاج مستقلين سيارتين لحضور إحدى الجلسات في مبنى المحكمة، فقام عدد من أفراد العائلة الأخرى بعقد النية على قتلهم جميعا، وترصدوا لهم وسط الزراعات في الطريق الذي أيقنوا سلفا مرورهم فيه، وما إن شاهدوا السيارتين حتى أطلقوا صوب المجني عليهم وابلا من الرصاص، أدى إلى مقتل أكثر من عشرين فردا.
نفس المذبحة تقريبا، حدثت أمام قرية أولاد خلف، مركز دار السلام، بمحافظة سوهاج، حيث قام أفراد من عائلة (الشواهي) بإطلاق النار من بنادق آلية على أفراد عائلة (القوايدة) أثناء استقلالهم لإحدى السيارات، مما أدى إلى مصرع خمسة أفراد في الحال، وإصابة باقي ركاب السيارة بجروح نارية خطيرة، وكذلك إصابة بعض العابرين في الشارع، وكان بين الضحايا أطفال في السادسة من العمر، وكل هؤلاء ثأرا لمقتل شخص واحد، بالمخالفة لأعراف الثأر المستقرة.
كل هذه المذابح وغيرها لا تنتمي إلى نظام الثأر التقليدي، كما أنها تتمحور حول رموز حداثية، مثل وسائل النقل الحديث، وتُستخدم فيها الأسلحة النارية الحديثة، سريعة الطلقات، وتكرارها لا يعبِّر عن حالات استثنائية، بقدر ما يعبر عن سلوك ثأري جديد، في طور الانتشار، وأكثر وحشية وجنونا.
عجز الجماعات الشعبية عن هضم المتغيرات الحديثة
لقد كان لدينا نظام ثأري متوارث في ظل بنية ريفية ثابتة لم تتغير على مدار قرون طويلة، حيث نجد نفس المشاهد الريفية التي ظهرت في بداية الثورة الزراعية في العصر الحجري الحديث، تستمر حتى العصر الحديث، وتتناغم معها منظومة أخلاقية تتمتع بالكثير من القيم الإيجابية، حتى لو اختلفنا معها.
في العقود الأخيرة حدثت متغيرات كبيرة جدا، لقد اختفت البيوت الطينية، وهيمن الإسمنت المسلح، ولم تعد الفلاحة هي المهنة السائدة، بل دخلت وظائف أخرى، النظام الزراعي تأثر ببناء السد العالي، نظرا للتحول في أسلوب الري، الأدوات التقليدية مثل النورج، والمذراة، والمحراث، والساقية، والشادوف، والكانون، والفرن البلدي، كلها اختفت، وظهر الجرار الزراعي، وموتور الماء، وماكينة الحصاد، وأدوات المطبخ الحديث وغيرها.
كل هذه المتغيرات لم تكن منفصلة عن الثقافة التقليدية بل تفاعلت معها، وأثرت فيها، وكان التأثير إيجابيا وواضحا على مستوى الأدوات، فالسيارة شيء والدواب شيء آخر، وكذلك موتور المياه قياسا بالساقية، وهكذا،
أما على مستوى الثقافة فلم يكن التأثير إيجابيا بنفس القدر، ولا نبالغ عندما نقول كان التأثير سلبيا وخطرا، ويرجع اللوم على الدولة وطبقة المثقفين، لأنهم تركوا مهمة الحوار مع المستجدات لسكان الريف أنفسهم، وهكذا تم التأثير الثقافي بشكل عشوائي، وعجزت الجماعة الشعبية عن هضم تلك المتغيرات الحداثية.
نظام ثأري حداثي أسوأ
في ظل الثورة الصناعية وثورة المعلومات، كان الطبيعي هو اختفاء ظاهرة الثأر العرفي، باعتبارها ظاهرة بدائية، فرضتها ظروف العصور الوسطى وما قبلها، لكن الثأر خالف المتوقع، واستمر بعناد كبير، وليته توقف عند هذا الحد.
لقد كان الثأر التقليدي مشكلة عويصة، وبدلا من حلها، ها نحن نسقط في نظام ثأري حداثي أسوأ، دون أن نفكر في رصده، أو دراسته بالشكل المناسب.
المشكلة الخطيرة التي كنا نتوقع اختفاءها من تلقاء نفسها، لا تستمر فقط بالمخالفة للمنطق المعتاد لمجريات الأمور، بل تأخذ شكلا خرافيا جديدا، أكثر شراسة وخطرا، لأننا ببساطة شديدة، نتوقع اختفاءها من تلقاء نفسها دون بذل جهود حقيقية.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.