مدخل:
استعرضنا في الحلقات السابقة كيف هيأت بريطانيا لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري بشكل غير مباشر (الحلقات الأولى والثانية والثالثة)، ثم بشكل مباشر في مجال الزراعة عمومًا وزراعة القطن خصوصًا.
في هذه الحلقة نستعرض الوجه الآخر، فكما شجعت الزراعة سعت على الجانب الآخر إلى إجهاض المشروع الصناعي، وكل ذلك لخدمة مصالحها.
بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري:
رابعًا- الصناعة:
فيما يتعلق بالصناعة ففي أواخر عهد محمد علي، وبعد فشل مشروعه الإمبراطوري، أغلق كثيرًا من المصانع، ثم أغلق عباس بقيتها.
لم يكن في الإمكان الاستمرار في تنفيذ السياسة الصناعية إلا على أساس داخلي محدود، فالجيش الذي كان محور النشاط الصناعي، تم تقليصه بموجب معاهدة لندن 1840، والخبراء الأجانب الذين كانوا يشرفون على أغلب المصانع قام عباس بطردهم.
الصناعة في عهد عباس الأول (1848-1854):
كان عباس أوفر حظًا في إدارة شؤون البلاد الصناعية على حجمها الصغير لما فيه صالح أهلها، فإن المصانع الصغيرة تناسب أحوال المصريين، وكان توجيه تلك المصانع في يد الوالي.
لقد نجح نظام الصناعات الصغيرة في عهد عباس الأول، ذلك النظام الذي قام على قاعدة الإنتاج الصغير ونظام الطوائف، وكان لهذا النجاح عدة أسباب منها:
- أن الإنتاج الصغير يناسب أحوال المصريين وآلاتهم وأدواتهم وفنونهم.
- كذلك تشجيع عباس باشا نظام الطوائف لما فيه خير الصناعات الصغرى وما تتطلبه من أموال محدودة.
- أضف إلى ذلك أن السياسة الصناعية في عهد عباس كان هدفها كفائيًا وليس تجاريًا.
- أخيرًا فقد عمل عباس على ضغط المصروفات ومسايرتها للإيرادات مما استلزم إغلاق المصانع لعدم الحاجة إليها ([1]).
ضعف الاقتصاد المصري أمام الصناعة الأوروبية
وبعد عباس مارس الحرفيون نشاطهم الاقتصادي في ظروف بالغة الشدة، حيث كان من أثر فرض بريطانيا لسياسة حرية التجارة (الباب المفتوح) أن فُتحت أبواب مصر أمام تجارتها، إذ لم يكن الاقتصاد المصري يستند إلى أية مقومات للصمود أمام الصناعة الأوربية المتطورة.
في ذلك الوقت كانت الرأسمالية الأوروبية قد عبرت مرحلة الإنتاج اليدوي إلى مرحلة إدارة الآلات بالبخار، وبذا بدأت السيطرة الاستعمارية على اقتصاد مصر.
إضافة إلى ذلك فإن تلك الصناعات الحرفية اصطدمت بصعوبات الحصول على المواد الأولية والتمويل، لذا لم تقوَ على مقاومة المصنوعات الأوربية التي غزت البلاد في ظل مبدأ حرية التجارة التي فضلها المستهلك لرخصها ومتانتها، ولتغير عاداته الاستهلاكية التي قلد فيها الغرب ([2]).
الصناعة في عهد سعيد باشا (1854-1863):
أما عن الصناعة في عهد سعيد فلم يكن من مصلحة مصر أن تحيي مشروع استقلالها الصناعي، وذلك لأن الأراضي الزراعية كانت تكفي لاستنفاد جهود غالبية المصريين وقتها.
لما لم يكن هناك عمل يفيض عما يلزم للإنتاج الزراعي، كان من العبث التفكير في إحياء مشروع الاستقلال الصناعي، خصوصًا وأن مصر عادت ولاية عثمانية، وكان عليها أن تتبع القوانين السارية في تركيا.
بهذا كان على مصر أن تسير على مبدأ حرية التجارة الذي فرضته عليها تركيا بمقتضى المعاهدة المبرمة بينها وبين بريطانيا، فإذا أضفنا إلى ذلك فقدان المصريين للروح الصناعية، بعد حرمانهم من القيام بالإنتاج الصناعي في نظامه الحديث منذ قيام محمد علي باحتكاره، أمكن تفسير حالة الركود الصناعية طيلة حكم سعيد.
غير أن عدم اضطرار مصر للاستقلال الاقتصادي لا يعني أن تبقى محرومة من نشاط صناعي، إذ أنه يجب دائمًا أن يقوم إلى جانب الإنتاج الزراعي نوع من الصناعات المناسبة التي تنجح في البيئات الزراعية، مثل صناعات الطحن والسكر وما إليها.
ارتباط الإنتاج المصري بسياسة أوروبا
كان على الحكومة في عهد سعيد أن تقوم بمثل هذه الصناعات ثم تعمل على توجيه الجهود الفردية نحوها، أو على الأقل تمنع من طغيان الأجانب على هذا الجانب من جوانب الاقتصاد.
لكن سعيد لم يقم بأي مجهود في هذا السبيل، وإنما فتح الباب لرؤوس الأموال الأجنبية فتدفقت على البلاد واستثمرت في مشاريع ذات منفعة عامة كتسيير قاطرات الترام أو توزيع المياه، تلك المشاريع التي كان على الحكومة أن تستغلها استغلالًا مباشرًا ولا تتركها للأجانب.
ذلك لأنه في حالة اتباع سياسة الحرية الاقتصادية يستحسن أن تقوم الحكومات بنفسها بالمشروعات ذات المنفعة العامة لصلاتها الشديدة والمباشرة بمصالح الجمهور، إضافة إلى أن ذلك التدخل الاقتصادي الأجنبي في بلد لم يستكمل استقلاله السياسي، يكون دافعًا إلى تقليل فرص الوصول إلى هذا الاستقلال.
كان من جراء تهاون سعيد أن ارتبط الإنتاج المصري بسياسة أوروبا نحو مصر فترة طويلة من الزمن، وصارت البلاد سوقًا للمصنوعات ورؤوس الأموال الأجنبية ومصدرًا للمواد الأولية، بل والعناية بمطالب الطبقات العليا وإهمال ما عداها ([3]).
اقرأ أيضاً:
الحلقة الأولى من المقال، الحلقة الثانية من المقال
الحلقة الثالثة من المقال، الحلقة الرابعة من المقال
ختامًا: طرق التجارة الخادمة للاقتصاد
في الختام يجدر بنا الحديث عن طرق التجارة الخادمة للاقتصاد، وذلك بالحديث سريعًا عن مشروعين كبيرين –برز من خلالهما الصراع البريطاني الفرنسي على مصر خلال القرن التاسع عشر– واللذين تم تنفيذهما في الفترة التي تعالجها سلسلة المقالات عهدي عباس الأول وسعيد باشا.
ألا وهما وصل البحرين من خلال: المشروع الإنجليزي البري “السكك الحديدية” والذي اتخذ قرار تنفيذه عباس الأول، وبدأ التنفيذ في عهده واستكمل في عهد سعيد باشا، والمشروع الفرنسي البحري “قناة السويس”، والذي اتخذ قرار تنفيذه سعيد باشا وبدأ التنفيذ في عهده واستكمل في عهد الخديو إسماعيل، وكلا المشروعين يحتاج إلى سلسلة مقالات ولكن نذكر هنا لمحة في عجالة.
صراع المسألة الشرقية
من المعلوم أنه لم يأت القرن الثامن عشر إلا وقد أخذت الدول الأوروبية الكبرى في التفكير جديًا في تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية فيما عرف بـ”المسألة الشرقية”، كذلك كانت تفكر تلك الدول في إحياء الطريق الشرقية القديمة للتجارة، طريق مصر، حيث هو الطريق الأقرب والأيسر بين الشرق والغرب([4]).
زاد اهتمام الفرنسيين والبريطانيين بفتح ذلك الطريق وبذلوا في هذا الاتجاه جهودهما.
البريطانيون يودون فتح البحر الأحمر إلى السويس لسفنهم الآتية من الهند، والفرنسيون يريدون الاستيلاء على تجارة الشرق وحرمان البريطانيين منها بتحويلها إلى طريق مصر.
لكن موقف الدولة العثمانية كان على غير ما يريدون، فكانت الدولة العثمانية أحرص من أن تأذن بفتح هذا الطريق مما يجعل ممتلكاتها في شرق المتوسط ميدانًا جديدًا للتنافس والتوسع الأوروبي على حسابها.
مشروع الربط البحري
مع مطلع القرن التاسع عشر وضعت بريطانيا أسس سياستها الواضحة نحو مصر، والتي اتبعتها لفترة طويلة، وخلاصتها: أنها لن تسمح لدولة أوروبية بالاستيلاء على مصر أو الاستحواذ بالنفوذ الأكبر فيها، ولن تسمح بقيام حكومة قوية في مصر تهدد مصالحها.
في أثناء الحملة الفرنسية على مصر تم طرح مشروع الربط البحري بين البحرين المتوسط والأحمر، لكن أعاقه سرعة جلاء الفرنسيين عن مصر، إضافة إلى اعتبارات فنية تتعلق بخطأ في حساب مستوى البحرين.
غير أن بعض الفرنسيين حاولوا تحقيقه في عهد محمد علي، ولكنه لم يقبله خشية تحول مصر إلى منطقة صراع دولي، ولكنه وجه عناية كبرى إلى فتح الطريق البرية التي تمر من الإسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى السويس. هذه الطريق التي أقنعت الحكومة البريطانية بأفضليتها على القناة من الناحية السياسية ([5]).
وبهذه الحلقة نختتم الحديث عن أدوات بريطانيا لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري بحيث تصبح مصر منتجًا للمواد الخام التي تحتاجها صناعته، وفي الحلقة القادمة –إن شاء الله– نتكلم عن فتح باب الاستدانة في عهد سعيد باشا،
ليتضح النموذج الاستعماري الذي أشرنا إليه في مقدمة الحلقة الأولى، والذي سيُختتم باحتلال بريطانيا لمصر في عام 1882 وهو خارج نطاق هذه السلسلة من المقالات.
يتبع.
المصادر
([1]) محمد فهمي لهيطة: تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1944، ص ص 201-204.
([2]) عبدالسلام عبدالحليم عامر: طوائف الحرف في مصر (1805-1914)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993، ص 202.
([3]) محمد فهمي لهيطة: المرجع السابق، ص ص 226-227.
([4]) محمد مصطفى صفوت: إنجلترا وقناة السويس (1854-1956)، المكتبة التجارية الكبرى، أكتوبر 1956، ص ص 12-13.
([5]) المرجع السابق، ص ص 13-17.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا