قضايا شبابية - مقالاتمقالات

الميتافيرس والأزمة الوجودية

نحن مقيمون على الإنترنت، نرسم معالم دنيانا التي نبتغيها من خلاله، ونُمارس تمثيل شخصياتٍ أبعد ما تكون عنَّا، نحقق زيفًا أحلامًا قد تكون بعيدة المنال، ويُصدِّق بعضنا البعض فيما نسوقه من أكاذيب ومثاليات، ننعم بأقوالٍ بلا أفعال، وقلوبٍ بلا عواطف، وجناتٍ بلا نعيم، وألسنة في ظلمات الأفواه المُغلقة تنطق بحركات الأصابع، وحريةٍ مُحاطة بأسيجة الوهم، ومن غير إنترنت سيبدو أكثر الناس قطعًا بحجمهم الطبيعي الذي لا نعرفه، أو بالأحرى نعرفه ونتجاهله!

لا شك أن ظهور الإنترنت واتساع نطاق استخداماته يُمثل حدثًا فريدًا متناميًا في مسيرة الإنسان الحضارية، وتغيير الطريقة التي يعيش بها البشر حياتهم. وأعني بكلمة إنترنت بالإضافة إلى شبكة الاتصالات الدولية الضخمة التي نتبادل من خلالها المعلومات: جُملة التقنيات التي دشنت ما نُطلق عليه اسم الواقع الافتراضي (Virtual Reality)، مثل أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية وغيرها، ومع ذلك لا ينطوي أي تعريف للإنترنت حتى الآن على إشارة للواقع الافتراضي، رغم تعايشنا معه وفيه بالفعل، فنحن نتفاعل ونتبادل المعلومات، ونشتري ونبيع، ونلعب ونضحك ونبكي، ونمارس أدق تفاصيل حياتنا عبر الإنترنت، وكل ما كنا نقوم به من قبل بالحركات الجسدية المكانية أَوْكَلْنَا مهمة القيام به إلى عقولنا! ولعل هذا ما تفعله كلمة ميتافيرس (Metaverse)، وهي كلمة استخدمها لأول مرة كاتبُ الخيال العلمي الأمريكي نيل ستيفنسون (Neal Stephenson) في روايته “تحطم الثلج” (Snow Crash- 1992)، للدلالة على تفاعل البشر مع بعضهم البعض، ومع البرمجيات في فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد مشابه للعالم الفعلي، وفيه يمكن للأفراد التفاعل عبر صورهم الرمزية اجتماعيًّا ومهنيًّا، والاستثمار في العملات وغيرها، والتعليم والتعلم، والعمل والسفر، في واقع افتراضي مُعزز تكنولوجيًّا، تُطمس فيه الخطوط الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو سريالي أو ميتافيزيقي، وهو ما قد يكون له تأثيرٌ عميقٌ على النفس البشرية، تلك التي ما أن تشعر بالواقعية حتى تتماهى أمامها معاني الذاتية والموضوعية!

لفهمٍ أعمقَ لما يمكن أن يعنيه هذا، يُمكنك أن تُفكر فيما أضافه لنا الإنترنت من قدراتٍ ما كان يحلم بها الإنسان منذ ثلاثة عقود فقط؛ رؤية بعضنا البعض والتحدث إلى بعضنا البعض في الوقت الفعلي ومن أي مكان على سطح الكوكب، إرسال الأموال ومشاركة المستندات والصور ومقاطع الفيديو بشكلٍ فوري، التحكم في الأجهزة وتوجيهها من أي مكانٍ نريد، ممارسة الفنون المختلفة وتصميم المشروعات التي تصنع الواقع من الخيال، إلخ، كل ذلك باستخدام شاشة صغيرة ولوحة مفاتيح! وهكذا، فإذا وضعنا كل ذلك في حُسباننا، أمكننا أن نتخيل ما يمكن أن تُصبح عليه التكنولوجيا الرقمية، وما قد يكون لنا من قدرات في غضون سنوات قليلة من الآن! صحيح أن الواقع الافتراضي ما زال خامًا، ويحتاج إلى أجهزة مثل نظارات الواقع المُعزز، وملابس ردود الفعل اللمسية، وأجهزة الاستشعار، لكن مقارباته التكنولوجية الأولية حبلى بكثرة من الإمكانات!

تخيل مكانًا يبدو فيه كل شيء تقريبًا واقعيًّا، لكنه أكثر إمتاعًا من الناحية الجمالية، وتخيل أنك الآن تنتقل من مكانٍ إلى آخر، من حدائق عائلتك التي تبدو متسعة كالغابة، حيث تناولت لتوك الشاي مع والدتك، إلى مطعم يمتلكه صديقك تحت الماء في بحر اليابان لتشارك في افتتاحه الكبير! تخيل بعد ذلك أنك تطير إلى أقمار كوكب المشترى، لتدور معها حول الكوكب ثلاث مرات أثناء استماعك لمقطوعة موسيقية هادئة، قبل أن تبدأ غفوتك اليومية المعتادة، ليقوم مساعد الذكاء الإلكتروني الخاص بك بإيقاظك بهدوء، وتذكيرك بأن لديك موعدًا هامًّا عليك أن تستعد له. تخيل أنك في الوقت الذي تستمتع فيه بإجازتك الأسبوعية في بيتك، تؤدي صلاة الجمعة في القدس أو الحرم المكي، أو صلاة الأحد في الفاتيكان، وأن بإمكانك التواجد في أحد مدرجات ملعب أوروبي لمشاهدة إحدى المباريات. ماذا لو كان هذا النمط من الحياة يحدث في كونك أو بيتك؟ ماذا لو تمكنت من إنشاء ومسح وتعديل بنية عالمك بالطريقة التي تريدها؟ قد تبدأ بالكون كما نعرفه كنقطة انطلاق، وقد تبدأ من نقطة الصفر بفراغ يُشبه الغرفة البيضاء، وفي كلتا الحالتين تسمح أو لا تسمح للآخرين بالوصول إلى عالمك، مثلما يسمح أو لا يسمح لك الآخرون بالولوج في عالمهم. هكذا لم نعد بحاجة إلى التقوقع داخل عالمنا الفعلي الذي تحده قيود الواقع، ولم نعد عبيدًا للنقاط الساخنة المكتظة فوق سطح الأرض!

قد لا تكون الصورة واضحة بحيث تصف بدقة ما سيكون عليه الميتافيرس في غضون سنوات قليلة، لكن التصور التقريبي لنطاق القوة التي سيمتلكها الإنسان يجعل الأمر خياليًّا إلى حدٍّ بعيد واقعًا جديدًا مُبهجًا، مليئًا بالاحتمالات والإمكانات، تسوده الحرية بأوسع معانيها. لكن ألا يجب أن نهتم بما يعنيه هذا عندما يتعلق الأمر بقدراتنا على التعامل مع هذا النوع من الواقع؟ وكم عدد الأشخاص الذين سيكونون على استعدادٍ فعلي لتحمل مسؤولية بناء عوالمهم الذاتية؟ قد نكون قادرين على تغيير قوانين الفيزياء، أو العمل وفقًا لقوانين جديدة يفرضها الواقع الافتراضي، وقد نكون قادرين على تدشين ألعابٍ ورفاهياتٍ جديدة، وعلى استكشاف عوالم لم نكن نتخيلها من قبل، لكن كم من الوقت سوف يستغرق الأمر حتى نشعر بالملل؟ وكم سينقضي من الوقت قبل أن يُواجه البشر الأزمة الوجودية الناجمة عن الافتقار إلى الهدف النهائي لحياتهم؟ وهل سيتمسك الناس بأديانهم وفلسفاتهم وقوانينهم التقليدية في مثل هذا الواقع المختلف جذريًّا، والذي لم تعد فيه هياكل المعاني والأخلاق قابلة للتطبيق؟!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نعم، قد يتحرر المرء في عالم الميتافيرس عبر المكان والزمان بشكلٍ تجريدي، لكن التجربة التي سيختبرها العقل الواعي قد تكون جحيمية، إذ من الأرجح أن يقضي الناس أغلب وقتهم في إعادة بناء واقعنا الحالي على صورهم الخاصة جزئيًّا، بينما يعيشون في ظل القيود الدينية والاجتماعية ذاتها التي كانوا يكابدونها عادةً على الأقل في البداية. أما الأجيال التالية فمن المتوقع أن تكون البنية الحياتية لهم مختلفة تمامًا وشديدة الخصوصية؛ تعتمل في إطار قوانين اجتماعية غريبة للغاية، وقوانين فيزيائية تستعصي على المألوف، وأخلاقيات تتجاوز ميولنا وقناعاتنا الحالية. وما من تأكيدٍ أن ثمة نسيجًا للمجتمعات المتداخلة يمكن أن يتفاعل عضويًّا ليحقق الاستقرار، مثلما حدث لمجتمعاتنا عبر التاريخ، ربما بسبب السرعة الفائقة التي من المتوقع أن يبني بها الناس بيئاتهم الخاصة ويغيروها، ولذا قد تكون الحاجة ماسة إلى أطرٍ فلسفية جديدة تُحقق الاستقرار المطلوب لكي يشعر الناس بالسعادة والرضا في عالمٍ من صنعه، يمتزج فيه الواقع بالخيال، والحقيقة بالوهم، والموضوعية بالذاتية!

ما عساها أن تكون تلك الفلسفة؟ لقد سعت الفلسفة عبر تاريخها إلى تقديم ومناقشة وتوضيح العناصر الأساسية والضرورية للعقل، وأهمها حاجته إلى أساسٍ ميتافيزيقي للحقيقة، وتفسيرٍ لأصل الوجود، وهدفٍ يستمد منه المعنى، ومظلة أخلاقية لسلوكياته وعلاقاته وتفاعلاته، إلخ. ولعلها -أي الفلسفة- قد أخفقت بقدر ما أصابت، لكن الأمر يبدو شديد الصعوبة حين يتعلق بالميتافيرس، لأن هذه العناصر المجردة قد تؤدي إلى تناقضاتٍ أعمق مما هو عليه الحال في واقعنا الفعلي! إن نسيج الميتافيرس ذاته يهدف إلى تعظيم الإبداع والإنتاجية الفردية والمجتمعية، الأمر الذي يتعارض مع المؤسسات والقوانين والتنظيمات الحالية. وبعبارة أخرى نستطيع القول: إن الميتافيرس بمثابة فضاء لا متناهٍ، يتفاعل فيه الأشخاص بشكلٍ مباشرٍ في مواقع مختلفة، وثمة حاجاتٌ لهم مماثلة لتلك التي لدينا في الواقع الفعلي: كالحكومات، والنظم القضائية والاقتصادية، وغيرها. وليس من السهل أن نُدشن مجتمعًا مستقرًّا في ظل نموٍّ شديد التسارع، وإمكاناتٍ غير محدودة بالمعنى الحرفي، وأيديولوجياتٍ قد يكون انتشارها مُدمرًا، هذه هي التحديات التي تواجهنا في المستقبل القريب، وما من مفر من طرحها للنقاش إن كانت حقوق الأجيال المقبلة تؤرقنا بالفعل نحن المسؤولون، والنخبة المُفكرة!

من المهم في النهاية أن نتذكر مدى تعقيد المشكلات التي نواجهها اليوم في عالمنا الفعلي، ومدى كثرة التساؤلات التي ما زالت بلا إجاباتٍ مُشبعة، فهل نحن على استعداد للولوج في عالمٍ سريع التطور يغزو عقولنا الفردية والجمعية، يثير تساؤلات أخرى جديدة أشد صعوبة؟ أم هي النهاية التي ستحملنا بالفعل إلى حقبة ما بعد الإنسانية؟!

مقالات ذات صلة:

أيه هو مشروع الميتافيرس

في البدء كان سطر الأوامر

أسرار الدوت كوم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية