كونفوشيوس الحكيم التربوي
يعتبر كونفوشيوس من الأعلام الكبار العمالقة في الفلسفة الفكرية في تاريخ البشرية عامة والصينية خاصة، حيث صُنف اسمه في أوائل “مائة شخصية أثرت في مجرى تاريخ البشرية”؛ هو من وضع اللبنة الأولى لمدرسة فكرية عريقة في تاريخ الصين القديم وهي المدرسة الكونفوشيوسية، منذ أكثر من 2500 سنة، فانتشر مذهبه وسادت أفكاره بين العامة والخاصة في ربوع الصين، والدول المجاورة في شرقي آسيا وأنحاء العالم.
نشأته
عاش (كونفوشيوس) في الفترة ما بين (551ق.م – 479 ق.م)، وهو مفكر ومعلم تربوي، ومؤسس الكنفوشية، عاش في أواخر فترة الربيع والخريف من تاريخ الصين، ونسبه العائلي يعود إلى عشيرة “كونغ” في بلدة “تسويي” من مملكة (تشوفو من مقاطعة شاندونغ حاليا)، اسمه “تشيو” ولقبه “تشونغ ني”، وتعاليمه ونشاطاته مدونة في كتاب “الحوار” الذي وضع على يد تلاميذه المخلصين.
اهتمت أمه في مراحله المبكرة بتدريبه وتعليمه، وبرغم فقره كان مغرما بالتعلم فقرأ كثيرا في كتب السابقين، وتلقى تدريبا في الموضوعات التقليدية التي أحب دراستها وهي: “الطقوس، والموسيقى، والرماية، وقيادة المركبات، والكتابة، والرياضيات”، ومن الطقوس أنه كان يطلب من الناس الالتزام بالنظام المتمثل في أن يكون الملك ملكا، والوزير وزيرا، والأب أبا، والابن ابنا، وأن يكون الوزير مخلصا للملك والابن يطيع الأب، والفئة السفلى تخضع للفئة العليا، وكان يؤكد على “البِر” فقال: “البِر هو حب الناس”، ويطلب من الحكام أن يحبوا الشعب، وألا يُفرِطوا في استغلاله.
كما دعا الحكيم إلى تهذيب الذات وتأديبها، وحسن المعاملة بين الناس، والصبر على التحمل، وضبط النفس أمام النكبات، كما أكدت تعاليمه على حسن علاقة الراعي برعيته والعدل والطاعة، وكيفية إدارة سياسة الدولة، فقد أنشأ نظاما يقوم على العدل والمساواة والتعاون والمسامحة.
اهتمامه بالتعليم والطلاب
إن (كونفوشيوس) كان يؤمن بالقضاء والقدر ويرى أن السماء هي الجهة القوية العليا التي تدبر كل شيء في الوجود، بما في ذلك حياة الناس وموتهم وأموالهم ومنزلتهم الاجتماعية. يقول الصينيون في القضاء والقدر إن كل الحوادث مُقدرة في السماء معروفة، والإمبراطور هو القائد في الأرض ولذا يعتقدون أنه ابن السماء، وبناء عليه وجب على الملك أن يأتمر بأمر السماء بأن يحكم بالعدل، فلو عَدَلَ عن الصراط المستقيم وقسا عليهم أو ظلمهم سلّطت عليه السماء من رعيته مَن يخلعه أو يبعده ثم آلت لغيره من الحكام العادلين.
لقد اهتم الحكيم بالتعليم ففي المجتمع العبودي كانت المؤسسات الحكومية تحتكر التعليم لنفسها فلا يقدر عليه ويستطيعه إلا أبناء الأرستقراطيين، فعندئذ أنشأ الكتاتيب التي تقبل التلاميذ من فئات المجتمع المختلفة بتنوعها، وبهذا فتح المجال واسعا للدراسة خارج الهيمنة الرسمية.
وعدد طلاب كونفوشيوس نحو (3000) نسمة بينهم (72) حواريا، نراه يركز معهم على المواضيع المتنوعة التي تناسب أحوالهم، وكان يحثهم على استذكار الدروس السابقة بصفة دائمة بقوله: “اكتسب معارف جديدة بعد استذكار الدروس السابقة” ليثبت ما تعلموه،
ويدعوهم إلى الوضوح باتباع الأسلوب الأمثل للدراسة فينصحهم بقوله: “إذا عرفتَ قل عرفتُ وإن لم تعرف قل لا أعرف”، كما وجههم إلى إدماج الدراسة المتأنية مع التفكير الإيجابي الهادف الرصين، وقد جُمعت أحاديثه في كتاب (الحوار) الذي كان نبراسا وهداية للحكام والوزراء في المجتمع الإقطاعي بتنفيذ أفكاره وتعاليمه، فأصبحت أداة روحية للحفاظ على النظام وعدم استغلال الشعوب.
تعاليم كونفوشيوس وتمسك الشعب الصيني بها
تدعو تعاليم كونفوشيوس إلى تعليم التسامح والتعاون والرحمة والأخلاق الراقية والحفاظ على كيان الأسرة والتعايش وقبول الآخر والعيش في سلام وأمان، بأن يعود الإنسان إلى فطرته التي ولد بها نقية صافية لم تَشُبْها شائبة، ولم تتلوث بالفساد والزيف. إنني وفي أثناء إقامتي في الصين وتعاملي مع الشعب الصيني لمست أخلاق الحكيم،
متمثلة في عادات الصينيين وتقاليدهم وحتى في حفظهم للحكم والأمثال القديمة الأصيلة في الحياة اليومية التي يطبقونها بطريقة لا شعورية، فهم يتعاملون من خلال فهمهم للنصوص التي تركها لهم هذا المفكر وأستاذهم المربي المتميز فقد تعلموا من حواراته ونصوصه وتعاليمه ومقالاته وآدابه.
إننا نشترك في ثقافة شرقية واحدة لذلك نحتاج أن نحيا بالرحمة والوئام والسلام الداخلي والخارجي، والتماسك الأسري، والترابط بين فئات المجتمع ونبذ الفرقة والاختلاف والطائفية، والتعايش النقي بين الشعب الواحد وشعوب العالم أجمع.
إننا أيضا في أمَسّ الحاجة إلى قوانين قوية وصارمة وعادلة تطبق على كل الشعوب بلا استثناء، على الأغنياء والفقراء، الضعفاء والأقوياء على السواء، تساوي بين الجميع، توفر الأمان والطمأنينة والدفء والود بين الجميع.