مقالات

هل يمكن تفسير السلوك أنه نتيجة برامج مخزنة في المخ؟ .. الجزء الأول

"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"

ما برنامج الكمبيوتر؟

إنه يتكون من مجموعة من التعليمات المتعاقبة التي يؤدي السابق منها إلى التالي، ولها بداية ونهاية، وتتكرر نتائج البرنامج كلما أجريناه، وللفرد أيضًا ردود أفعال شبه ثابتة إزاء المواقف المتكررة.

برنامج الكمبيوتر له مدخلات (INPUTS) ومخرجات (OUTPUTS)، وكذلك برنامج السلوك، فمدخلاته ما يسميه علم النفس بالمثير، ومخرجاته ما يسميه علم النفس بالاستجابة.

فكرة البرنامج السلوكي لا تتناقض مع فكرة مثير – استجابة، لكنها تقترح أن نضع بينهما البرنامج السلوكي الذي يشبه برنامج الكمبيوتر.

مدخلات البرنامج السلوكي ليست فقط المثير المباشر، لكنها تشمل كل ما يدركه الإنسان حوله في هذه اللحظة وكل ما يتذكره من خبرات.

الاستجابة تكون عادة مجموعة من الحركات المتتالية، التي لا يمكن تصور تكرارها إلا إذا كانت مخزنة وتُستدعى عند الحاجة، وهي مخزنة فيما يسمى في مجال الكمبيوتر بالبرنامج الفرعي (SUBROUTINE).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أساليب البرمجة

قوة الدماغ البشري مقارنة بالكمبيوتر

.إذا نظرنا إلى برنامج الكمبيوتر فإننا نجد أنه يمكن أن يشتمل على أربعة أساليب برمجية:

أسلوب التوالي (Sequential)

ومثاله في الكمبيوتر (سوف تكتب الأمثلة بلغة BASIC):

10 x=10

20 y=20

30 z=x+y

فلا يمكن تحديد قيمة (Z) إلا إذا حددنا قيمة (X) و(Y). وتتحدد قيمة (Z) من خلال علاقة رياضية محددة في الخطوة30 .

مثاله في السلوك:

1- يضغط السائق على دواسة البنزين.

2- تزيد سرعة السيارة.

فلا يمكن أن تزيد سرعة السيارة إلا إذا ضغط السائق على دواسة البنزين، فالسرعة تتوقف على شدة ضغط دواسة البنزين، وتربط بينهما علاقة ميكانيكية ثابتة.

الأسلوب الشرطي (Conditional)

مثاله في الكمبيوتر:

10 IF X=3 THEN Y=10 ELSE Y=100

هنا تتوقف قيمة (Y) على تحقق شرط معين هو قيمة (X) وليس على علاقة منطقية محددة.

مثاله في السلوك:

– إذا نجحت هذا العام سأحضر لك هدية، وإن لم تنجح سأحرمك من المصروف.

في هذا المثال فإن الهدية أو الحرمان من المصروف يترتبان على تحقق شرط معين من عدمه، وهذا الشرط ليس مرتبطًا بهما ارتباطًا مباشرًا حتميًا. فيمكن أن يحصل هذا الشخص على هدية في عيد ميلاده مثلًا، لكن السيارة في المثال السابق لن تزيد سرعتها إلا إذا ضغطنا على دواسة البنزين.

أسلوب التكرار (Looping)

مثاله في الكمبيوتر:

10 FOR I= 1 TO 10

20 PRINT “Good Morning”

30 NEXT

هذا البرنامج سوف يطبع عبارة (Good Morning) عشر مرات.

مثاله في السلوك:

– كرر بيت الشعر عشر مرات لتحفظه.

دائمًا التكرار مرتبط بشرط وإلا استمر إلى ما لا نهاية، والشرط هنا بلوغ عدد مرات التكرار عشر مرات.

أسلوب البرنامج الفرعي (Subroutine)

البرنامج الفرعي في الكمبيوتر يؤدي عملية معينة تتكرر الحاجة إليها، ولذا تُخزن في برنامج فرعي وتُستدعى عند الحاجة، بدلًا من تكرار كتابته في كل مرة، ومثاله في السلوك تعلم قيادة السيارة. ففي أثناء تعلم القيادة نكون كأننا نكتب البرنامج الفرعي للقيادة ونخزنه في المخ، ثم نستدعيه كلما جلسنا أمام عجلة القيادة، فأساليب برامج الكمبيوتر مطبقة كما رأينا في برامج السلوك.

إذا رجعنا إلى البرنامج البسيط

10 X = 3

20 Y = 4

30 Z = Y + X

فإننا نجد أن كل خطوة من هذه الخطوات تمثل عملية عقلية، إذًا فبرنامج الكمبيوتر ما هو إلا تسجيل للعمليات العقلية. والكمبيوتر حين ينفذ البرنامج فهو في حقيقة الأمر ينفذ هذه العمليات العقلية، بنفس الأسلوب الذي ينفذ به المخ مثل هذه العمليات.

هل أجهزة الكمبيوتر قادرة على تقليد الدماغ البشري؟

قوة الدماغ البشري مقارنة بالكمبيوتر

برنامج الكمبيوتر تقليد للمخ، لذا ليس من العجيب أن نعود فنقول أن المخ يعمل بأسلوب الكمبيوتر، والسلوك منتج من منتجات عمل المخ، لذا من الطبيعي أن ينتج السلوك بنفس الطريقة.

برامج الكمبيوتر الخاصة بالذكاء الاصطناعي تحاول أن تضيف إلى الكمبيوتر قدرات مثل الإدراك والتعلم، فهي هنا تقلد السلوك. لذا مرة أخرى ليس من الغريب أن نقول أن السلوك ينتج بنفس الأسلوب.

الفعل المنعكس الشرطي مثلًا هو تمامًا برنامج كمبيوتر مكتوب بالأسلوب الشرطي: IF (الطعام) OR (الجرس) THEN (اللعاب).

لكن من يكتب هذه البرامج داخل المخ؟ إن الكلب لم يولد ببرنامج الطعام/ الجرس! لكن يمكن أن نقول أنه ولد ببرنامج إشرافي له قدرة على كتابة البرامج السلوكية وتخزينها في المخ وتشغيلها عند الحاجة.

أنواع الذاكرة في الحاسوب

الكمبيوتر له نوعان من الذاكرة:

النوع الأول (ROM- Read Only Memory)، وهذه الذاكرة فيها البرامج الأساسية لتشغيل الكمبيوتر، ولا يتعامل معها مستخدم الكمبيوتر ولا تمسح بإطفاء الجهاز.

النوع الثاني (RAM- Random Access Memory)، وهي الذاكرة التي يتعامل معها المستخدم فيضع فيها بياناته في أثناء العمل، وهذه الذاكرة تمسح عند إطفاء الجهاز.

إضافة إلى أن للكمبيوتر وسائل تخزين للبيانات؛ الأقراص (Disks)، يمكن أن تخزن عليها وتُستدعى منها البيانات والبرامج.

يمكن تصور أن المخ به تقسيمات مشابهة، وأن الـ(ROM) الخاصة بالمخ توجد فيها البرامج الإشرافية التي يولد بها الإنسان أو الحيوان.

بالطبع يوجد جزء في المخ يشغل برامج السلوك، يماثل وحدة التشغيل المركزي (CPU) في الكمبيوتر.

البرامج السلوكية داخل المخ

قوة الدماغ البشري مقارنة بالكمبيوتر

فكرة برامج السلوك تحتاج منا أن ننظر إلى السلوك أنه مجموعة من الحركات الدقيقة المتعاقبة، التي تشكل الأداء السلوكي الذي نلاحظه.

كما نحتاج أن ننتبه إلى أن هذه البرامج تُكتَب وتُخزَن وتُستدعى بعيدًا عن تدخل ما نسميه الوعي أو العقل الواعي.

النشاط البرامجي نشاط لا شعوري، أو لعله ما يسميه علماء النفس اللا شعور. فالوعي قشرة إدراكية سلوكية قد يكون محتواها نفسه نتيجة من نتائج تشغيل برامج السلوك.

الدليل على ذلك ما اكتشفه علماء النفس من أن الإنسان قد يصدق الفكرة التي تريحه نفسيًا. فالتصديق هنا عملية عقلية واعية يعتقد الوعي بها أن فكرة ما صحيحة. لكن هذا الاعتقاد قد يكون زائفًا ولا يدرك الوعي هذا الزيف.

لذا يمكن أن نتصور أن عملية التصديق وعملية عدم إدراك الزيف هي قرار اتُخِذ داخليًا نتيجة عمل برنامج سلوكي داخل المخ. والوعي هنا يشبه شاشة الكمبيوتر التي قد تظهر عليها نتائج عمل البرنامج بغير أن يظهر البرنامج نفسه.

قوة الدماغ البشري مقارنة بالكمبيوتر

سؤال: إن برامج الكمبيوتر تحقق أهداف المبرمج، فما هي أهداف برامج السلوك؟

إن هدفها مصلحة صاحبها، فالبرامج الإشرافية التي يولد المخ بها لها هدف واحد؛ حماية مصالح صاحبها. إذًا فهذه البرامج رحمة من الخالق.

لكن ما الجزء من المخ الذي يكتب الآن هذا الكلام؟ لعله الجزء الأعلى في البرامج الإشرافية، وهو البرامج التحليلية التي تحلل كل شيء حتى نفسها!

عندما تعمل هذه البرامج فإن نتائج عملها تظهر على شاشة الوعي، فيرى صاحبها في هذه الحالة أعمق مما يرى غيره، ويصبح مستخدم الكمبيوتر الذي له بعض الدراية بالبرمجة.

لكن ما المصالح التي تحاول هذه البرامج تحقيقها؟ يمكن أن نقول أن هذه المصالح قد تتمثل في الغرائز والدوافع المعروفة في علم النفس.

يمكن أن نتصور أن الأمراض النفسية هي نفسها برامج طوارئ، تُشغَّل عندما تعجز البرامج السلوكية العادية عن تحقيق الرضا لصاحبها.

أنواع برامج السلوك

قوة الدماغ البشري مقارنة بالكمبيوتريمكن تقسيم برامج السلوك إلى أنواع مثل:

  • برامج التقليد: وهذه البرامج تجعل الشخص يقلد الأشخاص المحيطين به، ولعلها أول برامج تُكتَب، وعن طريقها يتعلم الطفل المشي والكلام والعادات السائدة.
  • برامج خبرات السرور: تمكن صاحبها من استعادة السرور كلما سنحت الفرصة.
  • برامج خبرات الألم: تمكن صاحبها من تجنب الألم بقدر الإمكان.
  • برامج التوافق الاجتماعي: تجعل صاحبها مقبولًا من المجتمع.
  • برامج المثل العليا: تجعل صاحبها يتجه إلى تحقيق أهداف عامة لها نفع غير مباشر، مثل تجنب السرقة الذي قد يحرمك من الاستفادة مما يمكنك سرقته، لكنه سيؤدي إلى صلاح المجتمع، وهذا سيعود بالنفع عليك.
  • برامج الدفاع النفسي: مثل السخرية من الآخرين.
  • برامج التكيف المرضي: وهي ما نعرفه بالأمراض النفسية، فلعلها برامج طوارئ تعد خط الدفاع الأخير لحماية الإنسان من عجزه عن التكيف.
  • البرامج الثابتة: برامج سلوكية يولد بها المخ، وهي شبه ثابتة لدى كل أفراد النوع. ومنها برامج الإرضاء الغريزي وبرامج الأمراض النفسية. لكن هذه البرامج الثابتة يمكن أن تدخل بعض التعديلات عليها طبقًا لبيئة وظروف كل فرد.
  • البرامج الفرعية: برامج تُخزن فيها خبرات متكاملة معينة، تُستدعى كلما دعت الحاجة، مثل برنامج قيادة السيارة أو الكتابة على الآلة الكاتبة أو عزف آلة موسيقية.
  • برامج التقاليد الاجتماعية: عندما تكون التقاليد الاجتماعية مستقرة، فإن برنامج التقاليد الاجتماعية يُكتَب بأسلوب تقليد الآخرين. أما عند نشأة أو تطور التقاليد الاجتماعية فإن هذا البرنامج يُكتَب تقريبًا في نفس الوقت عند كل أفراد المجتمع استجابةً لتغير الظروف العامة للمجتمع. والتقاليد هدفها مصلحة المجتمع، بينما البرامج السلوكية الأخرى هدفها مصلحة الفرد مباشرة.
  • برامج إدارة الحياة: برامج النضج، وبها يدير الإنسان شؤونه المختلفة بعد أن يكون قد جمع معلومات تمكنه من ذلك.
  • برامج الإبداع: لعلها أكثر البرامج السلوكية إثارة للحيرة، لأن نتائجها غير كامنة بصورة واضحة في مقدماتها، فلا هي تعتمد على التقليد أو على الخبرات السابقة أو على الاستنتاج المنطقي، وحتى إذا قلنا أنها إعادة توليف لعناصر سبق إدراكها، فما مصدر هذا التوليف؟ لو كان مصدره مثلًا نظرية الاحتمالات، لوجب على المخ تجربة آلاف وربما ملايين احتمالات التوليف حتى يصل إلى التوليف النهائي! لكن لم لا؟ ربما كان المخ يطبق عند الإبداع نظرية الاحتمالات، فالمخ يعمل بسرعة فائقة، ولعل سرعة عمل مخ المبدع تفوق سرعة مخ الناس العاديين، ربما!
  • برامج الضحك: نوعان: الأول برامج إثارة الضحك، والثاني برامج الاستجابة لإثارة الضحك. النوع الثاني موجود لدى الناس جميعًا تقريبًا، أما النوع الأول فموجود لدى الظرفاء فقط. وبرامج إثارة الضحك برامج في غاية الدقة، فإنك إذا تأملت شخصًا يلقي نكتة فإن أقل زيادة أو نقص في كلماته أو حركاته سوف يفسد النكتة فورًا!

هكذا فكما أن الكمبيوتر بدأ بتقليد المخ. فلعل صورة المخ قد تصبح أوضح إذا قارننا عمله بعمل مقلده النشيط الكمبيوتر.

مقالات ذات صلة:

المخ البشري يعمل في 11 بعدًا

سلسلة ما بعد الإنسانية

مفهوم السلوك الإنساني

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

م. مصطفى جاد الكريم

مهندس نووي ، شاعر وكاتب