الصين: تقدمها وحفاظها على الهوية
الحفاظ على الهوية من أهداف وجود أي أمة تريد البقاء، وخصوصا في عصر العولمة وأمواجها المتلاطمة ومشاكلها المتشابكة، وسيطرتها على مفاصل الدول وتحكمها في مقدراتها. ويختلف هذا الحفاظ والتماسك من دولة لأخرى على حسب إرادتها ومدى ارتباطها بإرثها وثقافتها وهويتها ومكتسباتها.
وبحكم عملي في الصين وما رأيته من هذا الشعب المحب لتراثه ومدى شغفه به وما خلفه الأجداد من حضارة عريقة، بل أستطع أن أزعم أن الصين صنعت حضارة أخرى تقوم على التكنولوجيا الحديثة المتقدمة.
استفادة الصين من الخبرات السابقة
لقد تعلمت الصين من دروس الماضي الأليمة، فقد كان فيها قتال دائر من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وتعلمت كذلك من المذابح التي حدثت على أرضها مثل مذبحة نانجنغ المروعة التي قام بها الجيش الياباني إبان احتلاله لبعض أراضي الصين في الحرب العالمية الثانية.
إن الصين تحصنت تحصنا فولاذيا، فقد أغلقت على نفسها مدة ثلاثين سنة، ثم حدث ما يسمى ببرنامج الإصلاح والانفتاح، أي الإصلاح الداخلي كإصلاح الفرد أولا وتهذيب أخلاقه وصقله بالعلم، والانفتاح على جميع دول العالم وإرسال البعثات واستجلاب الخبرات في المجالات المختلفة، ومحاولة صناعة كيان قوي غير قابل للتصدع ولايسمح لنفسه بالانهيار.
ومع بداية الغزو الثقافي بدأ اغتصاب العقول واحتلالها بالأفكار الكثيرة المتناقضة، وعلى الرغم من ذلك نجدها متيقظة تماما، ظهر ذلك ملحوظا في وضع مناهج متقدمة للتعليم مع الاستعانة بأحدث ما وصل إليه العلم، ونشر الثقافة الصينية العريقة ولغتها الأصيلة، مع إقامة منابر مختلفة في الداخل والخارج كالصحف والمجلات والإذاعات والقنوات،
وعلى سبيل المثال الناطقة بالعربية: وكالة شنخوا، وجريدة الشعب الصينية، وإذاعة الصين الدولية، وقناة سي جي تي إن، وغير ذلك من آليات التواصل ونشر الثقافة ومواجهة الغزو الفكري وخاصة الغربي ومحاولة السيطرة والتحكم.
الحرب بين أمريكا والصين وكيفية الحفاظ على الهوية
ومن القضايا البارزة التي تفرض نفسها على الساحة العالمية، الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، على الرغم من الخسائر الفادحة للبلدين، وما دعا أمريكا لشن هذه الحرب هو أنها رأت الصين تتقدم كالسهم المنطلق في غزو العالم بمنتجاتها ومشروعاتها العملاقة كالتكنولوجيا، وطريق الحرير البري والبحري، ومن ناحية أخرى فأمريكا تحاول السيطرة والهيمنة وبسط النفوذ بالمعنى الحرفي للعولمة، أما الصين فسياستها هي العيش بسلام وأمان للبشرية للفوز المشترك والنجاح للجميع في حياة رغيدة جميلة.
إن الدعم الجماهيري والظهير الشعبي داخل الصين وإصرار الحزب الشيوعي الصيني (الحزب الحاكم) على الحفاظ على الصين وثقافتها وحضارتها وهويتها هو الذي يعطي قوة الاستمرار والدفع بعجلة التنمية في المجالات المختلفة كالاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطبية.. إلخ.
هذا ومن الصعب اختراق السياج الصيني ومحاولة التأثير المباشر على الفكر والثقافة و الهوية ؛ الطلاب الصغار يتعلمون حب الوطن والدفاع والذود عنه بكل الطاقات والإمكانات الممكنة، وترى الدولة أن من مسؤليتها توفير التعليم الجيد المتقدم، والاهتمام بمنظومة الصحة الشاملة، وتشجيع الثقافة والمثقفين، وقد قال لي طالب ذات يوم: أنا أتعلم جيدا حتى أحصل على وظيفة جيدة.
تقوية العلاقات مع الدول
وتقوم الصين بعمل رباط وثيق بينها وبين دول العالم كافة فتلاحظ أنها تعطي لكل بلد أهميته وقيمته ووزنه، ومن ثم تكون قدر المساعدة وحدوث تبادل الخبرات والمنح الدراسية وغير ذلك من مجالات التعاون، فعلى سبيل المثال تعمل على توثيق العلاقات مع مصر لكونها دولة محورية وقوية ولها موقع متميز، ومع السعودية لكونها قلب العالم الإسلامي بما فيها من أماكن مقدسة،
ودول الخليج جميعا وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة، فالصين تسير بمبدأ أفيد وأستفيد، وعلاقتها قوية جدا مع إيران في مجالات كثيرة وخاصة العسكري والتقني، وأوروبا، وأمريكا نفسها، وكل هذا فضلا عن شقيقتها روسيا، وباكستان لدورها في طريق الحرير، وباقي الدول كل حسب موقعه وعلاقاته، حتى أنها تدعو إلى تسوية عادلة في فلسطين. ولكن كل هذا وغيره الكثير لا يسير عشوائيا دون ترتيب وإحكام ودراسات وحسابات، فالسبب الرئيس في تقدم الصين هو الدقة والنظام.
ومع مساعدة الصين لدول كثيرة والوقوف بجانب الدول الفقيرة لأنها ذاقت مرارة الحروب والقتال إلا أنها لم تنس نشر الهوية والثقافة الخاصة بها، فيتمثل ذلك بنقل الخبرات على شكل كتب ومجلات ومواد تكنولوجية، يظهر ذلك جليا في مجال الطب والتعليم والاقتصاد والتجارة والسياسة والثقافة والفن والمسرح، وغير ذلك من المجالات المختلفة.
وبالرغم من أنّ الصين تنفتح على العالم بأسره إلا أنها شعبا وحكومة حائط صد ضد تشويه تاريخها أو رموزها أو المساس بها.
ونجد على سبيل المثال أن القيادات التي تتولى مسئولياتها في الداخل ويمثلونها في الخارج شخصيات مثقفة واعية تعمل على خدمة بلدها والحفاظ على مقدراتها، وليس أدل على ذلك من الرئيس الصيني نفسه (شي جين بينغ) الذي دخل موسوعة جينيس في علم الإدارة، وقد صدر له الكتاب الثالث من موسوعة (حول الحكم والإدارة).
د. وائل الصعيدي
جامعة الاقتصاد والتجارة الدولية
الصين