في الحديث عن الحياة والإنسان، خصوصا لو كان الحديث عن طبيعة تلك الحياة، يتبادر للذهن سؤال لماذا نحن هنا؟ هذا السؤال ليس بجديد وقد يجد الكثير الإجابة عليه بطرق مختلفة، هذا الاختلاف في الإجابة هو ما يجعل السؤال قائم ومستمر خصوصا لو تقاربت الإجابات ظاهريا .
إن الحديث عن الهدف من الحياة، ولماذا نحن هنا؟ هو في حد ذاته سؤال ينبغي أن يُركِّز عليه الفكر الإنساني خصوصًا مع ارتسام هذا السؤال دائما في ذهن البشر، كما يُعد هو الباعث لأغلب الأفكار والأيدولوجيات المتصارعة قديما وحديثا، حيث سعى كل فكر ومنهج في تقديم تفسير معين لهذا التساؤل ورسم صورة محددة لطبيعة وكيفية الحياة الإنسانية بناء لهذا التصور الذي خرج به حول الإجابة عن هذا التساؤل.
وفي البداية يجب أن نقرر مسألة في غاية الأهمية حيث سينبني عليها أغلب بحثنا حول (الحياة الإنسانية والإنسان) والقدرة وما يرتبط بها من العلم والإرادة والحياة و الغنى المطلق لخالق هذا الكون وعدم احتياجه من أي جهة كانت. فعدم إثبات تلك القضية سيجعلنا في دائرة مفرغة من الشك والجهل الذي لا يمكن الخروج منه.
لذلك نجد أنه من الواجب إثبات تلك الحقيقة إثبات منطقي ننطلق منه إلى تفسير الكثير من القضايا التي سَتقابلنا في هذا البحث حول الحياة والإنسان.
القدرة:
القدرة هي مبدئية الفاعل المُختار لفعله؛ وليس مطلق المبدئية للفعل نفسه،؛ فيسمى الفاعل قادرا في قبال الفاعل المجبور على فعله، فالقادر عند الحكماء إن شاء فعل وإن شاء ترك.
*شروط القدرة:
أولا العلم والإرادة:
يقول الإمام الغزالي في الاستدلال على القدرة بالعقل “إن العالم محكم فى صنعته مرتب في خلقته فلابد أن يكون صانعه قادرًا؛ لأن من رأى ثوبا من ديباج حسن النسيج والتأليف ثم توهم صدور نسجه عن ميت لا استطاعة له أو عن إنسان لا قدرة له؛ كان منخلعًا عن غريزة العقل منسلكا في سلك أهل الغباوة والجهل”
ويقول الشيخ محمد عبده في الاستدلال على اتصاف الله تعالى بالقدرة “لما كان الواجب هو مبدع الكائنات على مقتضى علمه وإرادته فلا ريب يكون قادرا بالبداهة؛ لأن فعل العالم المريد فيما علم وأراد إنما يكون بسلطة له على الفعل ولا معنى للقدرة إلا هذا السلطان” .
ويستدل بعض علماء الكلام على ثبوت القدرة لخالق الوجود بأنه لو لم يكن قادرا لكان عاجزا ولو كان عاجزا لما وجد العالم، لكن العالم موجود بالمشاهدة إذن لابد أن يكون موجده قادرا وهو المطلوب.
ثانيا الاختيارية:
باعتبار أن الإنسان كائن يتحقق كماله بالإرادة الاختيارية لأفعاله وبلحاظ أن الإنسان ممكن في اختياره، والممكن يعود إلى الواجب، يتبين بأن الواجب مختار وصدور الفعل من فاعل مختار هو عين القدرة وهو المراد إثباته.
أحكام القدرة:
1- لما كان تعلق القدرة تعلق إيجاد وإعدام فهي لا تتعلق إلا بالممكنات فقط؛ لأن الممكن هو الذى يقبل الوجود والعدم، أما الواجب فهو ثابت لايقبل العدم أصلا لذاته، فلا تعلقت به القدرة؛ لأنها لو تعلقت به لإيجاده لكان تحصيلا للحاصل، وإن تعلقت به لإعدامه كان قلبا للحقائق أى يقلب الواجب إلى الممكن وهو محال، كذلك لا تتعلق القدرة بالمستحيل؛ لأنه معدوم لا يقبل الوجود أصلا لذاته فلو تعلقت به لإعدامه كان تحصيلا للحاصل ولو تعلقت به لإيجاده كان قلبا للحقائق ومحرزا لاجتماع النقيضين.
2- أيضا القدرة تتعلق بما هو أصلح بمقتضى علم الواجب بالنظام الأصلح وحكمته.
الغنى:
لأنّ واجب الوجود لا يشذّ أو يغيب عنه أيّ كمال وجوديّ، فهو واجد لكلّ كمال، وهذا معنى الغنى.
الحياة:
المراد بالحي هو المدرك لذاته ولغيره والفاعل، فهو “فاعل مدرك” ولإثبات الحياة للواجب دليلان:-
الدليل الأول يُستمد من كوننا أحياء والحياة كمال لنا، وباعتبار أن العلة التامة مُوجدة لجميع كمالات معلولاتها يكون الواجب حيًا.
الدليل الثاني يُستمد من ثبوت علمه وقدرته، وقد ثبت أنّه تعالى عالم قادر، فهو حيّ، يقول الغزالي” ندعي أنه تعالى حي، وهذا معلوم بالضرورة ولم ينكره أحد فيمن اعترف بكونه عالما قادرا، فإن كون العالم القادر حيا ضروري؛ إذ لا نعني بالحي إلا ما يشعر بنفسه، ويعلم ذاته وغيره، والعالم بجميع المعلومات القادر على جميع المقدورات، كيف لا يكون حيا؟! وهذا واضح، والنظر فى صفة الحياة لا يطول”
مما تقدم من استدلال بسيط هو القدرة والعلم والغنى لخالق الوجود، لا نستطيع أن نقول بوجود هدف وغرض؛ بمعنى أن الخالق يريد من عملية الخلق هدف أو غرض معين حيث يستلزم وجود غرض وهدف للخالق نفسه نقص فيه يريد بعملية الخلق استكماله، وهذا ما يتعارض مع العلم والقدرة والغنى المطلق.
والصحيح هو أن الخلق من قبل الخالق يكون باتجاه هدف معين ، ونحو كمال خُلق لأجله، حيث خلق الخالق الإنسان ليصل هذا الإنسان لهدف معين وهو كماله الإنساني، وهذه النتيجة تأخذنا في اتجاه آخر عند الإجابة عن السؤال عن الغاية من خلق الإنسان؛ هي في الحقيقة تساؤل حول حقيقة الإنسان نفسه، وعن الإمكانات الكامنة في هذا الوجود الإنساني، وما مدى الكمال الذي يمكن أن يصل له هذا الإنسان؛ لذلك إن البحث عن الغاية من الخلق لا يجب أن ينفصل عن البحث عن حقيقة الإنسان نفسه.
وقد قيل في هذا الصدد أن الهدف الذي يسعى الإنسان للوصول إليه ليحقق كماله هو الوصول للسعادة أو تحقيق العدل ، لكن إن كان هذا هو الهدف النهائي للتكامل الإنساني؛ يظل هناك سؤال وهو ماذا بعد أن يصل للسعادة ويحقق العدل؟
كما يطرح سؤال آخر نفسه عن كيفية بلوغ تلك السعادة وأي الطرق التي تحقق العدل؟! مع العلم بالجهل الذي عند الإنسان والنقص الذي يوجد بداخله وهو معرفة الطرق والأساليب الأنسب للوصول لتلك الغايات الكبرى.
وللمقال تتمة.