فن وأدب - مقالاتمقالات

الرواية والتصوف .. الجزء الأول

عاد التصوف منهلا للأدب العربي المعاصر، بل صار الحل المطروح لإخراج الناس من الظمأ الروحي والتردي الأخلاقي، لا سيما بعد انكشاف ما يسمى تيار “الإسلام السياسي”. فالتصوف يمتلك القدرة على الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ودفع الأمور قدما، لأن جوهره وبنيته وأفكاره وتاريخه يحمل سمات تساعد على هذا، ومنها:

أ- التصوف ميراثا لغويا عميقا

يمتلك التصوف ميراثا لغويا عميقا وجزلا، ينبو غالبا عن التفاصيل، ويرتفع فوق السياق الاجتماعي الذي أُنتج فيه، متجاوزا الزمان والمكان، بما يجعله قابلا للقراءة والتذوق والتفاعل معه من المختلفين في الثقافات والأديان، وقد استفاد العبودي في روايته من القاموس الصوفي، سواء بشكل مباشر، أو حين تأثر به وصنع لغته الخاصة.

كما يبدو التصوف أكثر رحابة أمام الدراسات الحديثة في فروع مختلفة من الإنسانيات، سواء بالنسبة للجوانب المجردة والنظرية، أو من خلال الممارسات والتطبيقات.

فثراء التصوف على مستوى الشكل والمضمون، والمحسوس والحدسي، أو البرهان والعرفان، يفتح الباب على مصراعيه أمام الدارسين، في اللغة والأدب والفنون والفلسفة والاجتماع والأنثربولوجي وعلم النفس والسياسة والتاريخ وغيرها.

وهذه مسألة ماثلة للأذهان وواضحة للعيان نضع أيدينا عليها إن طالعنا “ببلوجرافيا” التصوف والصوفية والمتصوفة، في لغات عدة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ب- يقوم التصوف على تجربة روحية خالصة

يقوم التصوف على تجربة روحية خالصة، لا تقف عند الاختلافات التي تفرضها شرائع الأديان، بل تتجاوزها إلى البحث عن الحقيقة، دون أن يعني ذلك التنصل من فروض وأحكام تلك الشرائع، لكنها لا تنظر إليها بوصفها نهاية المطاف من الدين والتدين بل هي مجرد وسائل لاستلهام الينابيع البعيدة للإيمان.

ج- ينطلق التصوف من الإلهي إلى الإنساني

ينطلق التصوف من الإلهي إلى الإنساني، ولا يلزم نفسه بالإغراق في التفاصيل والإجراءات التي يحفل بها الفقه واللاهوت والتقاليد والتدوينات الظاهرية لسير الأنبياء والصحابة والتابعين في الإسلام، والحواريين والقديسين في المسيحية، والأحبار والكهنة في اليهودية.

فمثل هذا وأكثر هو ما فرق بين أتباع الأديان رغم وحدة أصلها ومنبعها، وفتح بابا وسيعا لطغيان البشري على الإلهي، والتقول على الوحي، ونسب إليه ما ليس منه ولا فيه ولا عنه. ومن ثم لا يملك غير العقل القدرة على تقريب المختلفين في العقائد والمذاهب.

د- ينطوي التصوف على العديد من القيم العليا النبيلة

ينطوي التصوف على العديد من القيم العليا النبيلة التي يحتاج إليها الناس في كل زمان ومكان، مثل المحبة والتسامح والرضاء، وهي تصلح أن تكون أحجارا قوية لبناء جسر متين بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات، وهي قيم كان نص أدهم العبودي يأتي على استعراض مظاهرها ولو بطريقة غير مباشرة، وهو ما يفرضه الفن.

نماذج لتأثير التصوف والصوفية في الأدب

ويمكنني في هذا المضمار أن أقدم ثلاثة نماذج لتأثير التصوف والصوفية في الأدب، من خلال ثلاث روايات، الأولى هي رواية “حكاية فخراني” لمحمد موافي، والتي حضر فيها التصوف جنبا إلى جنب مع التاريخ واللغة أو البيان البازخ. ورواية “”حارس العشق الإلهي” لأدهم العبودي، التي تحتفي أيضا باللغة وتصنع تاريخا موازيا إلى جانب بعدها الصوفي الظاهر. ورواية “كيميا” لوليد علاء الدين وهي عن المنسي والمأخوذ على جلال الدين الرومي.

رواية “حكاية فخراني”

وبالنسبة للرواية الأولى فهي تحتاج إلى يقظة تامة من قارئها، حتى يستطيع أن يستخلص الحكاية الذائبة في بحر مديد من لغة عميقة، تلفت الانتباه لذاتها، حيث تنهل من قاموس ثري، وتصنع صورا تستحق التوقف عندها، ولا تكل ولا تمل في بث الحكمة، أو تقديم النصائح، ومشاكسة التاريخ كي يقدم خلاصاته بلا مواربة ولا التواء أحيانا.

كما أن على القارئ أن يتنبه إلى مغزى الارتحال في الزمن بين ما يجري الآن وما جرى في زمان مضى يمتد عدة قرون واصلا جانبا من التاريخ الاجتماعي والسياسي لمصر، لكنه لا يطغى على الروح الأصلية والأساسية للرواية المتمثلة في التصوف بكل ما يعنيه من غموض آسر، ولغة شاعرية، وفيوض روحانية، وتحليق في البعيد،

كما لا يجور اللعب مع الزمن كثيرا على الهدف الذي حدده الكاتب/ الراوي لهذا النص حين قال: “الذي جعلني أستمر، هو أنني ما اخترت رواية الحكايات، هي اختارتني، واجتمعت لدي. قلت: لو اخترت طريقا فاصبر، وإذا اختارك طريق، فاركب ظهر فرس أحلامك، والإشارة ساطعة، لا تغني عنها كلمة، ولا ألف عبارة”.

تحكي الرواية عن “زين الدين” الذي يقول عن نفسه: “ورثت الحكمة كابرا عن كابر، وذقت الشفافية وارثا عن وارث، وصحبني الشك في العقل ناقلا عن ناقل”، وهي قدرات عقلية ونفسية دفعته إلى السعي وراء سيرة جده الكبير “المهدي الفخراني”، فأتى من أسيوط في صعيد مصر إلى القاهرة طالبا مخطوطا باسم “سماع المعلم لروح يتكلم”،

وحين يشرع في تدوينه تتهادى أمامه سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، بما تنطوي عليه من أسرار روحانية، ومعان عميقة، تنثال من قريحته الوقادة، ووجدانه العامر بالروحانيات الخالدة، وهنا تتداخل السيرتان، وتتبادلان المواقع والمواضع والأدوار،

ساعيتان معا إلى بناء حكاية تتهادى على مهل، عبر سرد يُبنى بتؤدة، إذ يتوقف الكاتب عن كل حال ومقام ليبث لنا ما يجول بخاطر راويه، الذي يتماهى كثيرا مع الكاتب نفسه، فنعرف الكثير عنه، بقدر ما نعرف عن أبطاله، وعن السيرتين الممتزجتين في حنايا روايته.

تأثير تجربة الكاتب الذاتية على الرواية

فمنذ أن تبدأ الرواية بعبارة: “لولا رغبتي في انتشال روحي ما أزحت أنفي عن كفي”، وحتى تنتهي بعبارة: “اليوم أطرد كل وهم وأعترف بالحقيقة، فما الراوي إلا أنا، وما أنا إلا الراوي”، ونحن في توقف دائم مع الكاتب/ الراوي لنعرف رأيه في الشخوص والأشياء والحوادث والوقائع والآراء والأفكار، وهي مسألة كان بوسعه أن يتركها لشخصيات روايته، كي تعبر عن نفسها بحرية،

تتحاور وتصف وتتعارك وتتأمل وتبوح وترفض وتعاني وتهنأ، لترسم ملامح الحكاية أو تشيد بنيانها، عبر الأبواب السبعة التي قسم الكاتب روايته عليها وأعطاها بالتتابع عناوين (صليب/ إشارات/ شهوة/ قلب/ عبد الصمد/ القبة/ الحياة) وسبق كل كلمة من هؤلاء بكلمة “بوابة”، وهو تقسيم لم يأت اعتباطا، إذ إن كل عنوان يجمل ما تحته، أو يمثل بؤرة حكايته.

فالكاتب يتوقف طويلا في لحظات تأمل لكل ما حوله، وبعض ما وقع في التاريخ، فيستجلي العظات والعبر، ويستخلص الحكمة، ويسقط الماضي على الحاضر، ويجعل من كل هذا ما يخدم مسار البحث عن الحقيقة العميقة للوجود، وعن مكابدات الإنسان، وأشواقه الدائمة من أجل الامتلاء الروحي والتحرر من القيود، والتسامي على الصغائر.

يفعل هذا بنفسه، قابضا على السرد بيد من حديد، توقن بأن ما تستعيره وتقطفه من كلمات جزلة، راسخة في بطون كتب التصوف ومعاجمه، قادرة وحدها على أن تصنع هذا النص الذي لا يعطي نفسه لمن يطالعه بلا جهد وعناية، وقد يحتاج منه أن يكون قد مر يوما على كتب المتصوفة، أو لديه طرف من خبر بعض وقائع التاريخ الأوسط والحديث والمعاصر.

وينهل الكاتب في هذه الناحية من تجربته الذاتية، فهو صاحب دراسات سابقة في التصوف واللغة، وله ديوان شعر وحيد، فضلا عن عمله بالإعلام، الذي يعرف كل من يسمعه عبر الإذاعة أو يراه على الشاشة أنه ذرب اللسان، يحتفي باللغة،

ويحرص على سلامة النطق، وهي مسألة صاحبته أيضا في روايته السابقة “سفر الشتات”، كما أنه ابن رجل يصفه بأنه “روح خف لها جسد، فعاف النوم، ولم تألفه الأحقاد.. أنامل الذهب، وجبهة التجليات، ودولاب الحكايات”، وذلك في معرض إهدائه الرواية له.

تناول جانب من التاريخ الاجتماعي لمصر في الرواية

ويتخلي الكاتب أحيانا عن هذا لأبطاله فيروي “زين الدين” و”المهدي” بل يروي ابن عربي نفسه، وهو ما يظهر في أجلى صورة في تلك العبارة التي يقول فيها الشيخ الأكبر داخلا في مجرى السرد والحوار: “لعلك مررت في الفتوحات بحكايتي مع المسيح عليه السلام، الذي رأيته في فتوتي وبمناماتي، ولم ينبت وقتها بوجهي شعر، فعاتبني على اللهو،

وفي الصباح كنت أقرأ عن فضل الشام وخير دمشق، فقلت: إن الإشارات تعبر عن الرؤى. فأضمرت وجهتي من يوم خروجي قبل سنوات من الأندلس فقصدت بيت الله الحرام لأؤدي الفريضة، وفي قلبي تنبض دمشق، حيث ينزل عيسى على مئذنة الجامع الأموي”.

لكن الارتحال في ثلاثة أزمنة، تستغرق عدة قرون، والتطواف في عدة أمكنة، الذي يكون متبوعا بالوصف والتأمل، ووصل البعيد بالقريب من حوادث التاريخ، يخفف من طغيان حضور الكاتب، ومن وطأة عمق النص عن قارئ هذه الرواية،

ويمنحه متعة وفائدة في آن واحد، المتعة قد تكون في الحكايات التاريخية الصغيرة التي تتوالد على ضفاف الحكاية الأصلية، لا سيما مع وجود أسماء لأعلام سياسية كبرى في التاريخ المصري مثل محمد علي باشا والرئيس الأسبق أنور السادات،

والفائدة في تأملات الكاتب لهذه الأحداث، واستخلاصه منها ما ينفع في فهم ما يجري الآن، وكذلك في تناوله لجانب من التاريخ الاجتماعي لمصر، الذي يهبط من القصور والقلاع ليمشي بين الناس في الأزقة والحواري ويتوقف عند الحقول والحوانيت والورش، يردد أغانيهم وأناشيدهم وأمثالهم وتعبيراتهم.

(والبقية في المقال الثاني)

اقرأ أيضاً:

ما هو التصوف الحقيقي

بين “التنوير” الحداثي و”التنوير” الصوفي

الكتابة للمستقبل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري