العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية.. الجزء الثاني والخمسون
المدرسة المشَّائية: (50) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [6]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): أُنطولوجيا العدد
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 51) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [5]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): إثبات الوحدانية رياضيًا.
ونواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.
العدد: المربع الحسابي (4.3.2.1): أصلُ الموجودات كلها
إن السؤال الأساس بالنسبة إلى نظرية المعرفة (الإبيستيمولوجيا) يختص بالعلاقة بين الأمور الرياضية والأمور الطبيعية. ويطرح آينشتاين الإشكاليةَ على النحو الآتي: “كيف يمكن للرياضيات التي أنتجها التفكير الإنساني مجردةً من أي خبرة حسية أن طبقها على الأمور الواقعية بهذا التناغم المدهش؟”.
وقد اقترحتْ نظريةُ المعرفة حلين لهذه الإشكالية: الأول: أن الأمور الرياضية موجودة في الطبيعة بنفسها، وهذا ما نطلق عليه الحل المثالي. أما الثاني فهو أن الأمور الرياضية هي من وضع البشر ليسهلوا على أنفسهم ترتيب الأمور الطبيعية، وهذا ما يسمى بالحل النفعي. وقد تردد إخوان الصفا بين الأخذ بأحد الحلين، كما يقول ديفو.
إذا كان العددُ مبدأ معرفة النفس والرب فهو –في الوقت ذاته– أصلُ الموجودات كلها: فـ”الألفاظ تدل على المعاني، والمعاني هي المسميات، والألفاظ هي الأسماء، وأعم الألفاظ والأسماء قولنا “الشيء”. والشيء إما يكون واحدًا أو أكثر من واحد”. “والعدد كله آحاده وعشراته ومئاته وألوفه، أو ما زاد بالغًا ما بلغ فأصلها كلُها من الواحد إلى الأربعة وهذه هي (4.3.2.1). وذلك أن سائر الأعداد كلها من هذه يتركب، ومنها ينشأ، وهي أصلٌ فيها كلها، ومجموعها عشرة”.
والعددُ عشرة هو مثلث التربيع العشري، أو التتراكتيس (tetraktes) المقدس عند الفيثاغوريين، وهو أكمل الأعداد، ويحتوي على طبيعة الأعداد كلها (راجع: د. شرف الدين عبد الحميد: بيثاغوراس: لاهوت الرياضيات، مع نص الشذرات المنسوبة إلى بيثاغوراس وبعض البيثاغوريين باليونانية). وإذا كان العدد أصلًا للموجودات –كما يرى إخوان الصفا– فلا عجب أن يكون مطابقًا للأمور كلها: الطبيعية/المادية والأمور: الروحانية/العقلية، على السواء.
العدد والمربعات الطبيعية: مطابقةُ المربعات العددية للمربعات الطبيعية
يقول إخوان الصفا: “واعلم بأن كون العدد على أربع مراتبَ التي هي الآحاد والعشرات والمئات والألوف ليس أمرًا ضروريًا لازمًا لطبيعة العدد مثل كونه أزواجًا وأفرادًا، صحيحًا ومكسورًا، بعضها تحت بعض، لكنه أمرٌ وضعيٌ رتبته الحكماءُ باختيار منهم، وإذا فعلوا ذلك لتكونَ الأمورُ العدديةُ مطابقةً لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري، جل ثناؤه، مربعاتٍ مثل: الطبائع الأربع، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل: الأركان الأربعة، التي هي النارُ والهواء والماء والأرض، و مثل: الأخلاط الأربعة، التي هي الدم والبلغم والمرتان، المرة الصفراء والمرة السوداء، ومثل: الأزمان الأربعة، التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع، التي هي الصبا والدّبُور والجنوب والشمال. ومراتب الإخوان أربع، الأولى: الأبرار الرحماء (من سن 15 حتى 30 سنة) وهم طبقة المريدين، الثانية: الأخيار الفضلاء (ما بين 30 و 40 سنة) طبقة المُعلمين، الثالثة: الفضلاء الكرام (بين 40 و 50 سنة) طبقة القادة. الرابعة: مرتبة الكمال (بعد الخمسين) وهي أعلى المراتب طبقة المقربين من الله. ومصادر رسائل الإخوان مأخوذة من أربعة كتب: كتب الفلاسفة، والكتب السماوية المنزلة، والكتب الطبيعية، والكتب الإلهية”. والعلوم أربعة أقسام: الرياضيات والمنطقيات والطبيعيات والإلهيات، إلخ.
إذًا: “على هذه الأمثلة وُجدتْ أكثرُ الأمور الطبيعية مُربعات”.
العدد: المتتالية الحسابية الطبيعية: اتصال الكائنات وفق ترتيب (نظام) العدد
يطبق إخوانُ الصفا المنهجَ الرياضي على دراسة الطبيعة فيثبتون أن تسلسل الموجودات في الطبيعة متصل ولا نهاية له، فالطبيعة كالمتتالية الحسابية، وفي ذلك يقول الإخوان: “واعلم أيها الأخُ أن لهذه الموجودات التي تحت فلك القمر نظامًا وترتيبًا أيضًا في الوجود والبقاء، وهي مرتبة بعضها تحت بعض، متصلٌ أواخرها بأوائلها كترتيب العدد وترتيب الأفلاك، بين ذلك أن المعادنَ متصلٌ أولُها بالتراب وأخرُها بالنبات، والنبات أيضًا متصلٌ آخرُه بالحيوان، والحيوان متصلٌ آخرُه بالإنسان، والإنسان متصلٌ آخرُه بالملائكة، والملائكة أيضًا لها مراتب ومقامات متصلة أواخرها بأوائلها”.
العدد: المتتالية الحسابية الرُوحانية: التفسير الرياضي للفيض
إن العالم –كما يرى الإخوان– مُحْدَثٌ ليس بقديم، أحدثه الله تعالى وجعل مكوناته على شكل مربعات اقتضاءً لحكمته، والعلّةُ في ذلك أن تكون مراتب الأمور الطبيعية مطابقة للأمور الروحانية )العقلية المجردة). يقول إخوان الصفا: “وعلى هذا المثال وُجدَ أكثرُ الأمور الطبيعية مربعات لتكون مراتب الأمور الطبيعية مطابقة للأمور الروحانية التي هي فوق الأمور الطبيعية، وهي التي ليست بأجسام، وذلك أن الأشياء التي فوق الطبيعية على أربع مراتب، أولها: الباري جل جلاله، ثم دونه: العقل الكلي الفعَّالُ، ثم دونه: النفس الكلية، ثم دونه: الهيولى الأولى، وهذه كلها ليست بأجسام. فأول شيء اخترعه الباري وأبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يُقال له العقلُ الفعالُ، كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار (وأول الكثرة اثنان). ثم أنشأ النفس الفلكية من نور العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين. ثم أنشأ الهيولى الأولى من حركة النفس، كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ الخلائق من الهيولى ورتبها بتوسط العقل والنفس، كما أنشأ سائر العدد من الأربعة، بإضافة ما قبلها إليها”.
إذًا:
ليست نظرية الفيض عند إخوان الصفا هي نفسها عند الفارابي (راجع: ج 8 ( وابن سينا (راجع ج 15)، إن نسبة الباري، جل ثناؤه، من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، ونسبة العقل منها، كنسبة الاثنين من العدد، ونسبة النفس من الموجودات، كنسبة الثلاثة من العدد، ونسبة الهيولى الأُولى كنسبة الأربعة. وهذه هي فكرة الفيض الرياضية عند إخوان الصفا.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم:[7]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): الرفض الرياضي للتعصب بين البشر.
اقرأ أيضاً:
الجزء الثامن والأربعون من المقال
الجزء التاسع والأربعون من المقال
الجزء الواحد والخمسون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا