فن وأدب - مقالاتمقالات

وظيفة المسرح

يعد المجتمع رافدًا أصيلًا للشعراء والأدباء على مر العصور، يوحي إليهم بالأفكار الملهمة، ويغريهم بالنظرات الفاحصة الناقدة، ومن ثم يعدّ النص الأدبي انعكاسًا للمناشط الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بأبنائه كلهم، ويرتبط الفن القصصي بأجناسه المتعددة: “الرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية…” ارتباطًا كبيرًا بحياة الفرد والمجتمع، إذ يدور هذا الفن في فلك البيئة، فهي مادته ومقصده، يمتح منها ويعود إليها، وانطلاقًا من هذا وجّه الكتّاب عنايتهم إلى القضايا العامة التي تشغل حياة الإنسان، ونتج من ذلك أن كان فن المسرح من أكثر الفنون ارتباطًا بالحياة، إذ نجد فيه الإبداع الأدبي قد تحول إلى إشعاعات اجتماعية وثقافية وسياسية يستقبلها المشاهد ومن ثم يحاول الاهتداء بنورها في مناشط حياته وأهدافه الكبرى، ومن هنا أصبح المسرح استجابة لمتطلبات الحياة بمناطاتها ونشاطاتها المتنوعة جميعها، اجتماعية أو سياسية أو تاريخية أو ثقافية أو غير ذلك من الشؤون الإنسانية.

هذا بدوره تأييد لما قرره “أرسطو” من قبل لفكرة “التطهير”، إذ هي الغاية الأسمى من المسرح بأشكاله المتنوعة جميعها، ويقصد بالتطهير هنا أن المُشاهد حينما يشاهد مسرحية من نوع المأساة وينفعل بأحداثها وحوارها وشخصياتها، ثم يعود إلى بيته ويأوي إلى فراشه يجد نفسه يفكر فيما شاهده، ويقول لنفسه: إن ما يفعله البطل من أفعال أدت إلى نهايته المأسوية هذه هي ما أفعله أنا من أفعال، فهل ستكون نهايتي مأساوية مثل نهاية هذا البطل؟! وهنا يتخذ القرار الحاسم بالتراجع عن أفعاله هذه، وهو ما يعرف بالتطهير من هذه الأفعال، وحتى في المسرحيات الملهوية حينما يشاهدها المتلقي ويضحك على ما يشاهده من أفعال البطل، ثم يعود إلى بيته ويأوي إلى فراشه ويسترجع ما شاهده في ذهنه يجد أنه يفعل بمثل ما فعله البطل من أفعال مضحكة، وحينئذ يقول لنفسه: إن الناس يضحكون عليّ كما كنت أضحك أنا على البطل، وهنا أيضًا يأخذ القرار الحاسم بالتوقف عن مثل هذه الأفعال، وهذا هو المقصود بالتطهير في الملهاة.

وقد ربط “أرسطو” بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي أو الملهوي للبطل، وعدّ التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف باعثًا يشكل عملية تنقية وتفريغًا لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه وإرادته.

استفادة من فكرة التطهير هذه انطلق الأدباء والمبدعون في أدبهم لتقديم رؤيتهم النقدية الإصلاحية التي تسهم في بناء مجتمع أفضل، إذ المجتمع أحد الأسس التي تقوم عليها حياة الكاتب الحق، فهو يكتب لأبنائه ويقدم لهم ما يعينهم، ويسهم في توجيههم نحو سبيل الرشاد.

وعليه يجب أن تكون القضايا المسرحية متماسة مع بيئة الكاتب ومجتمعه، فاليد العليا للكاتب المسرحي الذي يسهم في بناء مجتمع رشيد، وهنا يقع على عاتقه مسؤولية كبرى تجاه مجتمعه، من حيث التوفيق بين عرض قضيته الفكرية التي يتناولها وإسهامها في بناء المجتمع، ومن جانب آخر هو مطالب بمعالجة الظواهر السلبية التي تفسد مظاهر الحياة الإنسانية لمجتمعه.

رأى رواد المسرح العالمي أن المسرحية ذات الفصل الواحد قادرة على تصوير المجتمع بنشاطاته كلها، ومن ثم يمكن للكاتب المسرحي تقديم العلاج الذي يراه مناسبًا لمشكلات مجتمعه عن طريق مسرحيته، وقد استخدمها لهذه الغاية موليير ودي موسيه، وماريفو، وتشيخوف، وتورجنييف، وجوته، وشيلر، وفي أدبنا العربي جاء مؤسس المسرح العربي النثري “توفيق الحكيم” وأقر هذا اللون من المسرحيات لتقديم علاجات ناجحة لمشكلات المجتمع، وذلك في سِفْره القيم: “مسرح المجتمع” الذي كتب فيه مسرحيات اجتماعية منها: النائبة المحترمة، وعمارة المعلم كندوز، والجياع، والرجل الذي صمد، وغيرها من المسرحيات التي قدمت أدواء المجتمع كما يراها الكاتب، ومتبعًا ذلك بالرؤية الإصلاحية التي تعالج هذه الأدواء.

وللأسف الشديد تحول المسرح في الآونة الأخيرة إلى نوع من العبث والسخف والسخرية غير المبررة، وتحولت الأجيال الحالية لا تعرف عن المسرح إلا فكرة الضحك والسخرية فقط، واستقر في أذهانها أن كلمة مسرح لا تعني إلا مزيدًا من الضحك، بعدما كان المسرح من قبل حصة من الثقافة العامة وسمو العاطفة الإنسانية، فقد كانت تعرض على خشبته أرقى المسرحيات العالمية من مثل: تاجر البندقية، وجعجعة بلا طحين، ويوليوس قيصر، وعطيل، والملك لير، وأنطونيو وكليوباترا لشكسبير، ومسرحيات: البخيل، والبرجوازي النبيل، والنساء المتعلمات، ومدرسة الأزواج لموليير، ومسرحيات: بيوت الأرامل، والسلاح والرجل، سيدتي الجميلة لبرنارد شو، وغيرهم كثير من الكتاب العالميين الذي أضاءوا الحياة بتعاليمهم وأفكارهم، وكان الناس يقضون سهراتهم بصحبة أبنائهم في هذه الأماكن التي ترتقي بأذواقهم وأخلاقهم.

ومن هذه القيم التي قدمت في الفنون القصصية اكتسب هذا الفن القصصي منه والمسرحي أهميته في حياة المجتمعات وثقافات الشعوب، وصدق الله تعالى إذ يقول راشدًا إلى أهمية الفن القصصي في تمثل العبر والعظات ممن كان قبلنا: “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.

مقالات ذات صلة:

النفاق من المسرح إلى الحياة العامة

توفيق الحكيم من فنان الفرجة إلى فنان الفكر

نقد ما بعد الاستعمار “ما بعد الكولونيالية”

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر