مقالات

كيف بدأ الذهب؟!

الطريقة المذهلة لتكون الذهب في أعنف أحداث كونية معروفة للإنسان!

هو الدهب جه منين؟!

السؤال دا رغم بساطته ورغم إن ممكن أي إجابة تقليدية عليه تكون سهلة جدًا، وتلاقي حد بيقولك دا بييجي من المناجم وبيبقى موجود في جوف الأرض، فاللغز الكامن وراء الأصل الحقيقي للذهب، ما زال لحد يومنا هذا واحد من أكبر الألغاز اللي بتواجه علم الفيزياء كله! ولسه محدش وصل لإجابة مؤكدة تأكيد كامل عن أصله وكيفية تكونه!

دا عشان الدهب واحد من ضمن أتقل المعادن المعروفة وأعقدها على الإطلاق، وطريقة تكونه مبتحصلش بسهولة أو تحت أحوال وظروف فيزيائية تقليدية، ولا حتى غير تقليدية! لكن الطريقة الوحيدة لوجوده وتكونه، والشكل الوحيد اللي ممكن يكون المعدن دا اتخلق بيه، إنه ظهر للوجود جزء من نتائج بعض من أعنف الأحداث الفيزيائية اللي حصلت في تاريخ الكون كله! انفجارات السوبرنوفا، وتصادم النجوم النيوترونية ببعضها!

هات بقى كوباية شايك الحلوة والنعناع، وتعالى معايا النهاردا أحكيلك قصة مذهلة عن المعدن الثمين النادر اللي بتشوفه حواليك في كل حتة، واللي وجوده وأصله الحقيقي بدأ قبل تكون كوكب الأرض نفسه بمليارات السنين!

يلا بينا !

أول من اكتشف الذهب في التاريخ

زمان ومن وقت طويل جدًا، حضارة الأزتك اللي كانوا عايشين في أمريكا الجنوبية، اكتشفوا وجود معدن نادر غريب، لامع لدرجة إنه بينور، ولونه دهبي جميل وبراق، وعشان كدا كانوا بيقولوا عليه إنه عبارة عن (عرق الشمس)!

رغم إن دا كان فقط تعبير أو استعارة، فهو كان بيحمل جواه قدر كبير جدًا من الدقة اللي محدش كان يقدر يتخيلها أو يتوقع قد إيه هي صحيحة، لحد ما اكتشفوها أخيرًا بعد قرون طويلة!

قصتنا يا صديقي بتبدأ من زمان جدًا، من بداية التاريخ البشري نفسه، لما بدأ المصريين القدماء في تعدين الدهب من المناجم الموجودة في جنوب مدينة طيبة، اللي كانت عاصمة مصر القديمة، الدهب دا كان يعتبر أندر معدن موجود على وجه الأرض، واللي خصائصه كانت مذهلة بالنسبة لهم، لدرجة إنهم كانوا بيصنعوا منه الحلي والمجوهرات، وصنعوا منه واحدة من أهم التحف الفنية الأثرية المعروفة للحضارة البشرية، اللي هي القناع الذهبي للملك توت عنخ آمون.

في العصور القديمة جدًا دي، اللي سبقت وجود الصناعات الحديثة المتطورة، الناس وقتها مكانوش يعرفوا لسه أي حاجة عن الخصائص الصناعية للدهب، اللي كانوا عارفينه كله إن المعدن دا تقيل جدًا ونادر، وكمان التعامل معاه سهل جدًا باستعمال الوسائل البدائية بتاعتهم، وبالحرارة العالية كانوا بيقدروا يشكلوه ويعملوا منه الأشكال اللي هما عايزينها، والمميز فيه إنه كان بيفضل محافظ على شكله ولمعانه وجماله مهما حصل، ومبيتغيرش إطلاقًا تحت أي ظرف، بعكس الحديد مثلًا اللي بيصدي، والنحاس اللي بيخضر والفضة اللي بتسود!

الدهب كان المعدن الوحيد اللي بيفضل محافظ على جماله النادر ولمعانه البراق المبهر للعين، لدرجة إن القدماء كانوا بيعتبروه هدية من الآلهة للبشر، وعشان كدا كانوا بيقدسوه!

اقرأ أيضاً: قصة حمى الذهب في كاليفورنيا

لماذا يتمتع الذهب بقيمة استثنائية

لسنين طويلة محدش كان عارف إيه سبب ثبات الدهب بالذات وعدم تأثره بمرور الزمن أو الوقت زي المعادن التانية دي كلها، لكن في القرن العشرين، علم الكيمياء والفيزياء تطوروا بقدر كافٍ خلانا نكتشف أخيرًا إن سبب تغير ألوان المعادن التانية الرئيسي إنها بتتفاعل مع الأكسجين الموجود في الجو وبتتبادل معاه الإلكترونات، لأن الأكسجين دايمًا عنصر بيحتاج للاندماج مع الإلكترونات.

إنما الدهب العنصر الوحيد اللي مكانش بيستسلم للأكسجين ومش بيتبادل معاه إلكترونات خالص، وعشان كدا دايمًا بيفضل ثابت ومش بيتغير!

لكن الخاصية الأعظم للدهب، واللي لم تُكتَشف إلا في وقت تطور الصناعات الإلكترونية، قدرته الفائقة وكفاءته الخارقة لتوصيل الطاقة الكهربية! الدهب واحد من أكتر المعادن قدرة على توصيل الكهرباء حتى لو كانت تيارات ضعيفة جدًا جدًا وغير محسوسة، ودا كله من غير ما يكون قابل لإنه يتلوث أو يتشوه أو يصدي أو يحصله أي حاجة على الإطلاق!

عشان كدا أصبح الدهب واحد من أهم المعادن الداخلة في صناعة الإلكترونيات، وأصبح كل جهاز إلكتروني حديث ومتطور وعالي الجودة، داخل في صناعته الدهب!

لكن السؤال بقى اللي كان بيراود علماء الفيزياء والكيمياء كلهم على مر التاريخ، إزاي الدهب دا أصلًا اتكون؟ وجه منين؟! المعادن التانية كلها ليها أصل معروف بشكل أو بآخر، وتفاعلات كيميائية أو أحداث كونية معينة أوجدتها، إنما الدهب بالذات كان لغز، عشان هو نادر جدًا، وفي الوقت نفسه أتقل من الحديد اللي المفروض إنه اتكون في باطن النجوم ذات نفسها!

طب إيه أصله بالضبط؟!

لماذا لم تنطفئ الشمس؟

من أين جاء الذهب

قصة الإجابة عن التساؤل دا يا صديقي بترجع للقرن الـ17 والـ18، لما كانت الكنيسة معتبرة إن عمر كوكب الأرض لا يتعدي الـ6000 آلاف سنة، نظرًا لاعتبارات دينية كانت عندهم وقتها، المهم إن في علماء كتير مكانوش مقتنعين بالكلام دا، وساعتها، علم الجيولوجيا كان لسه بيبدأ، وكانت الأدلة الحديثة كلها اللي بيكتشفوها سواء بالبحث في طبقات الأرض والتحليلات الكربونية، أو الاكتشافات الحفرية والديناصورات، بتأكد إن عمر الكوكب لا يمكن يكون 6 آلاف سنة! وإنه المفروض يكون ملايين أو مليارات السنين على أقل تقدير!

هنا بقى كان السؤال: إزاي الشمس بقالها طول المدة الطويلة جدًا دي مشتعلة ومنورة، وبتطلع نور وطاقة بالقدر الرهيب دا، من غير ما تتطفي أو الوقود بتاعها يخلص؟!

في العصر دا، الناس لسه مكانش عندهم وسائل تقنية حديثة لتحليل الشمس ومعرفة تكوينها إيه ، والرأي السائد في الوسط العلمي كان إن الشمس مشتعلة كدا نظرًا لأن في مليارات الكويكبات والنيازك اللي بتسقط فيها، وانفجاراتها دي هي اللي بتديلها طاقة تفضل مشتعلة لفترة الـ6000 سنة المزعومة دي!

بس مع مرور الوقت، ولما عرفنا أخيرًا إن الأرض عمرها أقدم من الـ6 آلاف سنة بكتير، محدش كان قادر يفسر مصدر الطاقة الرهيب للشمس، ولا سبب وجود المعادان الثقيلة اللي فيها وكمان اللي موجودة على الأرض خالص، لحد ما جه آينشتاين في بداية القرن العشرين، ونشر نظريته اللي غيرت كل شيء بعدها؛ النسبية العامة!

اقرأ عن: الهندسة الجيولوجية الشمسية

هل تنتهي طاقة الشمس قريبًا؟

المعادلة الأساسية اللي اتكلم عنها آينشتاين، اللي هي (E=MC2) بتقول إن المادة في أساسها عبارة عن طاقة، وإن عند تحلل المادة دي أو اندماجها ببعضها بتطلع قدر ضخم وهائل جدًا من الطاقة، مالوش وصف، ودا كان الأساس اللي توصل فيه العلم للانشطار الذري بعدها، وعرفنا لأول مرة شكل الانفجارات النووية مع نهاية الحرب العالمية التانية.

في 1920، العالم البريطاني سير آرثر إيدينجتون (Arthur Eddington )كان أول واحد اقترح إن عملية انصهار النيتروجين واندماجه دي هي اللي ممكن تكون مصدر الطاقة الهايلة للشمس، لكن مكانش عارف يثبت دا رياضيًا ونظريًا.

لحد بعدها بفترة، وتحديدًا في بدايات الأربعينيات من القرن العشرين، العالم الألماني هانز بيث (Hans Bethe) قدر يشرح لأول مرة ظاهرة سلسلة تفاعل البروتون – بروتون أو (proton-proton chain reaction) الفيزيائية، واللي بتوضح علميًا إزاي الهيدروجين بيندمج مع بعضه في مراكز الشموس، وبيتحول لهيليوم، وإزاي الاندماج النووي الهايل دا بينتج الطاقة الحرارية والضوئية الرهيبة للشمس!

ومن المعادلات بتاعته دي، قدرنا نعرف ونستنتج رياضيًا إن الشمس بتاعتنا بتحتوي على قدر من الوقود الهيدروجيني قادر على إبقائها مشتعلة لمدة 5 مليار سنة جايين تقريبًا، وبعدها الهيدروجين دا هيخلص، فالشمس هتضطر تستهلك العناصر الأتقل الموجودة جواها، وهينتج عن دا عناصر تانية جديدة وتقيلة، هتبدأ بالكربون، وتفضل تتدرج لحد ما توصل للنيتروجين والأكسجين.

انفجار السوبر نوفا

لكن في الشموس التانية الأكبر حجمًا من شمسنا، واللي جاذبيتها بتعمل ضغط وحرارة رهيبين على مركزها، فالرحلة دي مش هتتوقف عند الأكسجين، بل هتفضل مستمرة وهتكون عناصر أتقل وأتقل، لحد ما هتوصل للحديد، اللي هو آخر معدن تقيل ممكن يتكون في باطن النجوم، وبعدها هينتهي الاندماج النووي تمامًا، وهتنهار النجوم على نفسها، وتنفجر في واحد من أعنف الأحداث الكونية اللي ممكن تحصل على الإطلاق، السوبر نوفا (Super Nova).

النجم بينفجر وبيقذف الغازات والعناصر التقيلة والطاقة والحرارة الهايلة دي كلها في الفضاء، ومن هنا بتتكون سحب الغازات العملاقة اللي بيسموها السُدُم أو الـ(Nebulae)، اللي بعد كدا بتبقى البذرة اللي بتتشكل جواها الكواكب والنجوم الجديدة، وبتتملي بالعناصر والمعادن التقيلة والغنية اللي بتساهم في تشكيل الكواكب!

اقرأ أيضاً: انفجار النجم بيتلجوس

اندماج النجوم النيوترونية

من أين جاء الذهب

الآراء العلمية في البداية ولحد فترة قريبة، كانوا فاكرين إن الدهب واحد من العناصر التقيلة شديدة الندرة، اللي بتتكون في أثناء انفجار النجوم، لما الضغط والحرارة والطاقة الكبار جدًا بيتسببوا في تحرير عدد هائل من النيوترونات اللي بتندمج مع أنوية ذرات تانية وتشبعها، وتتسبب في تكون العناصر التقيلة دي، لكن كان في رأي تاني بيقول حاجة مذهلة أكتر من كدا، بيقولك إن الدهب دا بيتكون في حدث أعنف كمان من انفجار النجوم!

الحدث دا اندماج النجوم النيوترونية!

زي ما أنت عارف، فالنجوم النيوترونية دي عبارة عن بقايا بتفضل موجودة بعد انفجار بعض النجوم اللي حجمها وكثافتها واصلة لمرحلة بتكون فيها أكبر من الشمس بتاعتنا لكن أصغر من حد معين، الحد المعين دا اللي بيتكون عنده الثقوب السوداء، ومش دا موضوعنا دلوقتي.

لما النجم بينفجر وهو في الحجم المعين دا، بتندمج بقايا كتلته كلها مع بعضها بسبب الضغط الشديد، ودا بيخلي البروتونات الموجبة نفسها تندمج مع الإلكترونات السالبة، ودا بيتسبب في تكوين نيوترونات متعادلة الشحنة كتير جدًا، مضغوطة في بعضها على نحو لا يصدق، لدرجة إن حجم نجم نيوتروني واحد ممكن يبقى 10 كيلومتر مربع تقريبًا، أصغر من حجم مدينة، بينما كتلته ممكن تبقى أكبر وأكثر كثافة من الشمس بأضعاف، لدرجة إن معلقة واحدة بس من مادته ممكن تبقى أتقل من جبل إيفرست!

ماذا يحدث عند اندماج نجمين نيوترونيين؟

فتخيل بقى إيه اللي ممكن يحصل لو 2 من النجوم النيوترونية دي اتكونوا قريب من بعض، وبعدين انجذبوا لبعض وتصادموا وحصل ما بينهم عملية اندماج؟

الناتج هيكون أعنف حدث ممكن يحصل في الكون حرفيًا، وأعنف حتى من انفجارات السوبر نوفا نفسها، لدرجة إنه هيطلق كميات كبيرة جدًا من أشعة جاما عالية الطاقة، والمفروض إنه هينتج موجات جاذبية ضخمة وعنيفة جدًا هتنتقل لملايين السنين الضوئية في الاتجاهات كلها، وتتسبب في تشوه وانحناء نسيج الفضاء نفسه في أثناء مرورها!

النيوترونات المتحررة كلها اللي بتنتج من الانفجار دا، بتنطلق في وسط الطاقة العظيمة الخارجة من الانفجار دا، وبتندمج مع ذرات وأنوية عناصر أخرى، عشان تكون العناصر النادرة اللي منها الدهب!

أهو موجات الجاذبية دي بقى، واللي افترض وجودها آينشتاين زمان بوصفها جزء من نظرية النسبية العامة، محدش كان قادر يرصدها ولا يشوفها ولا كنا متأكدين من وجودها إطلاقًا، لحد ما في سنة 2017، قدر مرصد لايجو LIGO الجذبوي إنه يكتشف وجودها أخيرًا، في حدث قلب الأوساط العلمية والفيزيائية رأسًا على عقب، ولسه لحد النهاردا بيتحاكى به الجميع!

اقرأ أيضًا: الانفجار الكبير المظلم!

من أين جاء الذهب؟

من أين جاء الذهب

من هنا، عرفنا بقى إن موجات الجاذبية حقيقية، وإن الموجات اللي رصدوها في 2017 دي نتجت عن اندماج حصل بين نجمين نيوترونيين، ولما رصدوهم وحللوا الضوء المنبعث منهم باستعمال وسائل الرصد والتحليل الطيفي هنا على الأرض وباستعمال المراصد الفلكية والفضائية، قدرنا لأول مرة نشوف المعجزة وهي بتحصل قدام عيوننا!

الدهب كان بيتكون بالفعل، وبيتخلق من اندماج العناصر التانية في قلب الحرارة الرهيبة للانفجار!

ولأول مرة، المعجزة اللي كان بيحلم بيها الكيمائيين زمان، وكانت بتتنسج عنها قصص وحكايات خارقة ومذهلة، عن حجر الفيلسوف اللي بيقدر يحول الحديد لدهب، وغيره من الحكايات الأسطورية، كانت بتتحقق قدامنا رأي العين، وعرفنا أخيرًا إن اللي بيحصل في قلب الكون، ممكن فعلًا يبقى أعظم بكتير من أي شيء يقدر عليه خيال البشر!

عشان كدا، في كل مرة تبص على الخاتم أو السلسلة الدهب بتاعتك، أو على السبايك اللي بتتباع في فترينات المحلات، عايزك بس تفتكر إن القدماء مكانوش بيكدبوا، وإن الدهب فعلًا كان هدية أسطورية من الإله.

هدية جاية من أعماق الكون، اتخلقت في قلب انفجار ضخم ما بين أعظم نجوم ممكن تشوفها في حياتك، وسافرت ملايين الأميال في الفضاء لحد ما استقرت أخيرًا في جوف كوكب، وجه كائن ذكي اتكون بعدها بملايين السنين يحفر في أرضه لحد ما لقاها، وشكلها في هيئة خاتم بيلبسه في صباعه!

زمان كارل ساجان قال إننا مخلوقين من بقايا النجوم، وكالعادة كان معاه حق!

مصادر:

https://www.scientificamerican.com/video/all-the-gold-in-the-universe-was-likely-created-this-way/

https://www.zmescience.com/feature-post/natural-sciences/chemistry-articles/periodic-table/how-gold-is-made-science-064654/

https://earthsky.org/space/how-the-universe-creates-gold/

https://www.astronomy.com/science/does-all-the-gold-in-the-universe-come-from-stars/

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. محمود علام

كاتب روائي وباحث، وسيناريست