مقالات

مشكلة الكواليا: الوعي والتفرد الإدراكي – الجزء الأول

هل بإمكانك أن تصف لي تجربة إحساسك بالألم، أو بطعم القهوة، أو برائحة الوردة، أو حتى رؤيتك للونٍ معين؟ الإجابة بالطبع هي النفي، وإن بدت غير ذلك للوهلة الأولى، والسبب ببساطة أن لكل منا تجربته الفريدة في الإدراك الحسي، حتى وإن كانت هناك عوامل مادية مشتركة.

قد يتألم أحدنا بقوة من وخزة الإبرة، وقد يكون الألم بسيطًا أو منعدمًا لدى آخر، وقد يُقبل أحدنا على طعام بعينه في الوقت الذي ينفر منه آخر، وقد يشعر أحدنا بالبهجة والانتعاش حين يشم وردة بعينها، أو يرى لونًا بعينه، في حين لا يُمثل ذلك الشعور الأمر ذاته لآخر، إلخ، لكن أيًا منا لن يستطيع في النهاية أن يُخبر الآخر بطبيعة أو درجة الإحساس الذي يُكابده!

هذا ما يُعرف فلسفيًا باسم مشكلة «الكواليا»، وهي إحدى أصعب المشكلات في الفلسفة والعلم على حدٍ سواء، لأنه إن كان من المستحيل نقل «الكواليا» لُغويًا، فمن المستحيل أيضًا الاستدلال بها أو عليها في حُجة منطقية، أو معالجتها بالوسائل المادية!

تعريف الكواليا اصطلاحا

«الكواليا» مصطلح حديث نسبيًا في الأدبيات الفلسفية لمشكلة العقل والجسد، وهو اسم جمع لاتيني (مفرده Quale) يُستخدم فلسفيًا للإشارة إلى مجموعة الخواص العقلية للخبرات الحسية، أعني تلك الخواص الكلية (كالحمرة Redness) حين يتم إدراكها ذهنيًا بمعزل عن أي مصدر قد تكون له تلك الخواص في الواقع الحسي الفيزيائي.

بعبارة أخرى، نستطيع القول إن «الكواليا» هي الطريقة التي تشعر بها عند وجود حالات عقلية مثل الألم، ورؤية اللون الأحمر، وشم رائحة الوردة، وغيرها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أو هي تلك الصور النوعية لخبراتنا الذاتية بالعالم: الصور الباطنية، الاستبطانية، غير الفيزيائية، وغير القصدية، المسؤولة عن شعور المرء حين يرى شيئًا ما، أو يسمع صوتًا ما، أو يشم رائحة ما، إلخ، وهي صور يمكن أن تختلف من شخص إلى آخر بغض النظر عن العمليات الفيزيائية والكيميائية المصاحبة للشعور أو الوعي داخل الجسد الإنساني، والتي يشترك فيها البشر جميعًا في ظروف الأحوال العادية.

أول من استخدم مصطلح

وكان الفيلسوف والمنطقي الأمريكي «كلارنس إرفنج لويس» Clarence I. Lewis (1883 – 1964) هو أول من استخدم مصطلح «الكواليا» بمعناه الحديث المقبول عمومًا، وذلك في كتاب له بعنوان «العقل ونظام العالم»، نـُشر سنة 1929، حيث وصف فيه «الكواليا» بأنها «تلك السمات الكيفية التي يمكن التعرف عليها مـن خلال المُعطى، والتي يُمكن أن تتكرر بشكلٍ مختلف في تجارب مختلفة».

وفي الربع الأخير من القرن العشرين، وضع الفيلسوف والرياضي الأسترالي «فرانك كاميرون جاكسون»Frank C. Jackson (1943– 1999) تعريفـًا أكثر دقة للكواليا، واصفـًا إياها بأنها «صفاتٌ معينة للإحساسات الجسدية، وكذلك لخبرات الإدراك الحسي، تلك التي نعجز عن نقلها إلى الآخرين بأي مقدار من المعلومات الفيزيائية الخالصة». ولعله يعني بذلك عدم قدرتنا على الإفصاح عن تلك الصفات باستخدام اللغة.

وعلى نحوٍ تمثيلي، يمكن تعريف «الكواليا» بأنها «مشاعر نيئة»Raw feels، فالشعور النيئ هو بمثابة «إدراك حسي في ذاته ولذاته»، مأخوذًا برمته بمعزلٍ عن أي تأثير له قد يُحدثه على السلوك والاستعداد السلوكي.

في حين أن «الشعور المطبوخ» Cooked feel –إن صح التعبير– هو ذلك الإدراك الحسي حين يوجد من خلال تأثيراته. على سبيل المثال، يُعد تصور طعم القهوة شعورًا خامًا نيئًا لا يوصف، في حين أن تجربة الدفء أو المرارة الناتجة عن طعم القهوة وغيرها من الإدراكات الحسية المشتركة بين الناس إزاء طعوم أخرى ستكون إحساسًا مطبوخًا.

على أن أفضل تعريف للكواليا هو ذلك الذي قدمه الفيلسوف الأمريكي «دانييل كليمنت دينيت» Daniel C. Dennett (من مواليد 1942) سنة 1988، حيث حددّ أربع خواص أساسية يجب أن توصف بها «الكواليا» عمومًا، وهي:

  1. غير قابلة للوصف Ineffable، بمعنى أنها لا يمكن أن تكون محل تبادل إخباري أو تواصل لغوي، ولا يمكن إدراكها إلا من خلال الخبرة المباشرة.
  2. جوهرية Intrinsic، بمعنى أنها خواص ليست علائقية، أي خواص لا تتغير اعتمادًا على علاقة الخبرة بأشياء أخرى.
  3. خاصة Private، أي أن كل مقارنات الكواليا بين الأشخاص مستحيلة نسقيًا.
  4. يتم إدراكها مباشرة أو على نحوٍ فوري بالوعي.

يتبع

اقرأ أيضاً:

عن أصل الفلسفة أتحدث

بوئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!

مكانة العقل في الفلسفة العربية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية