قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثاني والأربعون

المدرسة المشَّائية: (40) ابن رشد وكتبه: "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"

الفلسفة والتأويل (8): جدل الظاهر والمؤول

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 41) جدل الظاهر والمؤول (7): ب. لماذا الشرع فيه الظاهر والباطن؟ ج. معنى التأويل. د. التأويل اجتهاد: لا إجماع في النظريات (المسائل الفلسفية، شؤون العقيدة).

ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: جدل الظاهر والمؤول.

ثالثًا: قوانين التأويل وقواعده الرئيسة

من له الحق في التأويل: ليس التأويلُ اليقيني –كما يقول ابن رشد– حقًا لكل أحد. إن التأويل اليقيني لا يمكن أن يكون إلا للراسخين في العلم: أهل البرهان، وهؤلاء هم:

  1. أصحاب الفطر الفائقة.
  2. أصحاب العدالة الشرعية.
  3. أصحاب الفضيلة العلمية الخلقية.

أما أصحاب الفطر الناقصة فلا يحق لهم التأويل اليقيني والوقوف على معاني الباطن، التي هي وقف على أصحاب البرهان من الراسخين في العلم وحدهم.

أ. معاني الشرع الخمسة: ما يؤول وما لا يؤول

الخطاب القرآني وفق المعنى المقصود من ألفاظه

ينقسم معاني الخطاب القرآني المستمدة معانيه من ألفاظه خمسة أقسام، تنقسم إلى قسمين وفق ما إذا كان المعنى لم يضرب له مثلًا أو ضرب له مثلًا. يقول ابن رشد: “إن المعاني الموجودة في الشرع توجد على خمسة أصناف. وذلك أنها تنقسم أولًا إلى صنفين، وينقسم الآخر منها إلى أربعة أصناف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالصنف الأول غير المنقسم: المعنى المصرح هو نفسه المعنى المقصود

أن يكون المعنى الذي صرح به، هو المعنى الموجود بنفسه (لم يضرب مثالًا للمعنى، أي دون تمثيل حسي أو خيالي). وهذا الصنف تأويله خطأ ولا يجوز تأويله البتة.

الصنف الثاني المنقسم

أن لا يكون المعنى المصرح به في الشرع هو المعنى الموجود، وإنما أخذ بدله على جهة التمثيل (ضرب للمعنى مثلًا: حسيًا أو خياليًا). وهذا القسم ينقسم أربعة أقسام:

أولها: المعنى بعيد وضرب له مثلًا بعيدًا

أن يكون المعنى الذي صرح بمثاله لا يعلم وجوده إلا بمقاييس بعيدة مركبة، تتعلم في زمان طويل وصنائع جمة. وليس يمكن أن تقبلها إلا الفطرُ الفائقة، ولا يعلم أن المثال الذي صرح به فيه غير الممثل له إلا بمثل هذا البعد الذي وصفنا. وتأويل هذا الصنف خاص بالراسخين في العلم، ولا يجوز التصريح به لغير الراسخين (مقصور على أهل البرهان).

الثاني: المعنى قريب وضرب له مثلًا قريبًا

مقابل هذا (الأول)، وهو أن يكون يُعلم بعلم قريب منه الأمران جميعًا، أعني: كون ما صرح به أنه مثال، ولماذا هو مثال. تأويل هذا الصنف هو المقصود منه والتصريح به واجب.

الثالث: المعنى قريب وضرب له مثلًا بعيدًا

أن يكون يُعلم بعلم قريب أنه مثال لشيء ويعلم لماذا هو مثال بعلم بعيد. فهذا الصنف الثالث في تأويله نظر: لأن هذا الصنف لم يأتِ فيه التمثيل من أجل بعده على أفهام الجمهور، وإنما أتى فيه التمثيل لتحريك النفوس إليه. وهذا مثل قوله عليه السلام: “الحجر الأسود يمين الله في الأرض”، وغيره مما أشبه هذا مما يعلم بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال، ويعلم بعلم بعيد لماذا هو مثال. فإن الواجب في هذا ألا يتأوله إلا الخواص من العلماء. ويقال للذين شعروا أنه مثال، ولم يكونوا من أهل العلم لماذا هو مثال: إما أنه من المتشابه الذي يعلمه العلماءُ الراسخون. وإما أن ينقل التمثيل فيه لهم إلى ما هو أقرب من معارفهم أنه مثال. وهذا كأنه أولى من جهة إزالة الشبهة التي في النفس من ذلك.

الرابع: المعنى بعيد وضرب له مثلًا قريبًا

عكس هذا (الثالث) وهو أن يعلم بعلم قريب لماذا هو مثال ويعلم بعلم بعيد أنه مثال. وفي تأويل هذا الصنف الرابع أيضًا نظر: أعني عند الصنف الذين يدركون إن كان مثالًا فلماذا هو، وليس يدركون أنه مثال إلا بشبهة وأمر مقنع، إذ ليسوا من العلماء الراسخين في العلم. فيحتمل أن يقال إن الأحفظ بالشرع ألا تتأول هذه وتبطل عند هؤلاء الأمورُ التي ظنوا من قبلها أن ذلك القول هو مثال، وهو الأولى. ويحتمل أيضًا أن يطلق لهم التأويل لقوة الشبه الذي بين ذلك الشيء وذلك الممثل به. إلا أن هذين الصنفين متى أبيح التأويل فيهما تولدت منها اعتقادات غريبة وبعيدة من ظاهر الشريعة، وربما فشت فأنكرها الجمهور. وهذا هو الذي عرض للصوفية ولمن سلك من العلماء هذا المسلك”.

طرق الشريعة الأربعة في تحديد ما يؤول وما لا يؤول: الخطاب القرآني من زاوية علاقة النتائج بالمقدمات

وهذه الطرق في الشريعة على أربعة أصناف:

1.    عدم جواز التأويل لا في المقدمات (اليقينية) ولا في النتائج (اليقينية) معًا

الصنف الأول مشترك للجميع، فتكون مقدمات الأقاويل، تصورًا وتصديقًا يقينية، والنتائج اللازمة عن هذه المقدمات نتائج أخذت نفسها دون مثالاتها، وهذه لا حاجة فيها إلى التأويل. وفي ذلك يقول ابن رشد: “أحدها أن تكون، مع أنها مشتركة، خاصة في الأمرين جميعًا: أعني أن تكون في التصور والتصديق يقينية مع أنها خطابية أو جدلية. وهذه المقاييس هي المقاييس التي عرض لمقدماتها، مع كونها مشهورة أو مظنونة، أن تكون يقينية. وعرض لنتائجها، إن أخذت أنفسها دون مثالاتها، وهذا الصنف من الأقاويل الشرعية ليس له تأويل. والجاحد له أو المتأول كافر”. وهذا الصنف يكون في مبادئ الشريعة (الله، النبوة، اليوم الآخر) التي لا يجوز تأويلها.

2. جواز التأويل للنتائج (الظنية– المعبر عنها بمثالات) دون المقدمات (اليقينية)

الصنف الثاني: “وهو ما كانت مقدماته يقينية، والنتائج اللازمة عنها مثالات للأمور التي قصد إنتاجها. وهذا يقتضي تأويل النتائج دون المقدمات. يقول ابن رشد: “والصنف الثاني أن تكون المقدمات، مع كونها مشهورة أو مظنونة، يقينية، وتكون النتائج مثالات للأمور التي قصد إنتاجها. وهذا يتطرق إليه التأويل أعني نتائجه”.

3. جواز التأويل للمقدمات (غير اليقينية– المثالات الظنية) دون النتائج (اليقينية)

الصنف الثالث: وهو ما كانت مقدماته ظنية مشهورة غير يقينية، والنتائج اللازمة عنها هي الأمور التي قصد إنتاجها بنفسها، وهذا يقتضي تأويل المقدمات دون النتائج. وفي هذا الصنف يقول ابن رشد: “والثالث عكس هذا (الصنف الثاني): وهو أن تكون النتائج هي الأمور التي قُصد إنتاجها نفسها، وتكون المقدمات مشهورة أو يقينية. وهذا أيضًا لا يتطرق إليه تأويل: أعني لنتائجه. وقد يتطرق لمقدماته”.

4. جواز التأويل في المقدمات (غير اليقينية– المثالات) وفي النتائج (الظنية– المثالات) للراسخين في العلم وحدهم

الصنف الرابع: ما كانت مقدماته غير يقينية، والنتائج اللازمة عنها مثالات لما قصد إنتاجه. وهذه تقتضي من الخاصة تأويلها والعامة حملها على ظاهرها. وفي هذا الصنف يقول ابن رشد:”والرابع أن تكون مقدماته مشهورة أو مظنونة، من غير أن يعرض لها أن تكون يقينية، وتكون نتائجه مثالات لما قصد إنتاجه. وهذه فرضُ الخواص فيها التأويل، وفرض الجمهور إمرارها على ظاهرها”.

إذًا:

  • المسائل التي خالف ظاهرها البرهان تتطلب التأويل ويجب تأويلها.
  • المسائل التي لا يخالف ظاهرها البرهان لا يجب تأويلها.

خلاصة تأويلية

نسبية التأويل: نستنتج من تقسيم ابن رشد السابق: أن التأويل أمر نسبي، ما يجوز لشخص تأويله لا يجوز في حق شخص آخر، تبعًا لاختلاف فطر الناس وقربهم أو بعدهم من البرهان، وتبعًا لاختلاف طرق الشريعة في التصور والتصديق.

القاعدة: ما هو يقيني كله لا يتطرق إليه التأويل، وما كان مشهورًا، أو ظنيًا، أو مثالًا، يتطرق إليه التأويل.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه: “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل: (9) جدل الظاهر والمؤول.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الواحد والأربعون من المقال

التخصص والإفقار الممنهج

العقل والجدل

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج