فن وأدب - مقالاتمقالات

فوتوكوبي

لن ألوم نفسي كثيرًا لأني لم أشاهد هذا الفيلم المصري الجميل، بل ولم أسمع عنه من قبل مع أنه أُنتج من سبع سنوات كاملة، فقد قاطعت الأفلام من مدة طويلة وذلك بسبب تفاهة المعروض وتجاريته وتركيزه على نوعية الكوميدي السطحي التي تعجب كثيرين، وقبل أن أحدثكم عن فيلم أعجبني، أريد أولًا أن ألخص رؤيتي لما أصاب السينما خلال عقود عدة، وجعلني وغيري نتجنب مشاهدة الأفلام لسنوات.

ما هي أفلام المقاولات

فكما تعلمون ومنذ بداية زمن الثمانينيات انتشر في السينما المصرية مصطلح أفلام المقاولات، والذي ارتبط بظهور نوادي الفيديو والتسويق الخليجي التجاري للأفلام، حيث كان الفيلم ينتج لا ليُعرض للمشاهد في قاعات السنيما بشكل محترم بل ليحقق الربح وكفى، من خلال شرائط الفيديو والبيع لموزع خليجي بصرف النظر عن المستوى، وهكذا ابتليت السنيما المصرية بأفلام رخيصة وفن “مسلوق”، يدفع المنتجين إلى تقليل التكلفة بقدر الإمكان لزيادة الربح، فالعملية تجارية أصبحت بحتة تعتمد فقط على أسماء بعض النجوم للبيع.

وهكذا ظهر فن سنيمائي يقوم على التوفير، فالفيلم لا يستغرق إنجازه إلا أيامًا قليلة ويعتمد على تصوير رديء وممثلين “نحيتة” بحسب الوصف الإنتاجي، أي يبحثون عن الأجر ولا يهتمون بالمضمون، والفيلم بهذه الصناعة التجارية يضمن للمنتج ربحًا كبيرًا خصوصًا على مدار السنين، فبالإضافة إلى التوفير في تكلفة الإنتاج والبيع لنوادي الفيديو فالقنوات المصرية والعربية أرضية أو فضائية صارت كثيرة وتعد بآلاف، وهي في حاجة لأن تملأ مدة الإرسال على مدار الساعة، ما يجعلها مستعدة لشراء كل شيء يمكن عرضه على الشاشة، ومعنى هذا أن كل إنتاج فني من أفلام ومسرحيات ومهما كان مستواه سيكون سلعة رابحة.

ومنتج العمل الفني يختلف عن منتج السيارة مثلًا، فأنت لا يمكنك بيع السيارة إلا لشخص واحد لتقبض الثمن مرة واحدة، أما منتج الفيلم فيمكنه بيع حق عرضه عشرات المرات لكل من يدفع، ولهذا انتشرت في الوسط السنيمائي مقولة أن من ينتج فيلمًا كمن يبني عمارة ويؤجرها، يظل يجني دخلها طول العمر، ثم يبقى هذا الدخل من بعده لورثته أيضًا، هذا ما أطمع كثيرين من أصحاب رؤوس الأموال ومنهم تجار خردة وزبالون وجزارون أن يدخلوا مجال الإنتاج السينمائي وهم جهلاء، فالربح وفير، كما سيتيح له الإنتاج السنيمائي فرصة “التعرف” على الممثلات عن قرب وخصوصًا الفتيات الصغيرات الراغبات في الشهرة.

وفي أيامنا هذه ما زالت أفلام المقاولات منتعشة بل وبأشد مما كانت من قبل، لكنها استندت إلى معطيات أكثر عصرية فبدلًا من نوادي الفيديو ظهرت وسائل العرض المنزلي من تطبيقات إليكترونية وباقات، وكلها مستعدة لشراء كل شيء لعرضه مهما كان مستواه، فالمشاهدة قائمة على الاختيار الشخصي، وأذواق الناس تختلف مما يسمح بعرض كل شيء، وهكذا استمرت أفلام المقاولات.

اقرأ أيضاً: فيلم “برا المنهج”.. نقطة نور لم تدم طويلًا

فيلم فوتوكوبي

فيلم فوتوكوبي

أعرف أنها مقدمة تاريخية طويلة قبل التحدث عن فيلم واحد لكنها ضرورية، فبسبب تفاهة المعروض من الأفلام عزف كثيرون من سنوات عن مشاهدة الجديد في السينما، حتى إذا تصادف في وسط زحام التفاهة أن يخرج إلى النور فيلم جيد فمن المحتمل أننا لن نلاحظه، وهذا ما ينطبق تمامًا على فيلم فوتو كوبي، هو فيلم جيد وجاد على غير المعتاد في السنوات الأخيرة، ولعل هذا هو السبب الأهم لكونه لم يشتهر أو يُعرف بما يكفي، فمعروف عن السينما المصرية ومنذ سنوات طويلة أن الفيلم العميق الجاد فيها غير جماهيري، والفيلم الجماهيري فيها غير جاد ولا عميق.

قصة فيلم فوتوكوبي

وفيلم فوتو كوبي الذي أنتج عام 2017 فيلم جاد، ولهذا هو ليس فيلمًا جماهيريًا، وقد فاجأني عندما شاهدته بالصدفة، فهو إنساني بشدة وجميل الحوار وحلو الإخراج، قصته مرتبطة بمشاعر إنسانية مثل الإحساس بالفقد والوحدة والغربة في زمن تغير فيه كل شيء بسرعة، وتبدلت فيه كل ملامح المجتمع بطريقة حادة يصعب تقبلها، مما ورث الحزن لأجيال لم تعرف هذا الطغيان العنيف للمادة، والفيلم وسط هذه المتغيرات المربكة يهمس للمشاهد بما معناه: “قد نمر أنا وأنت بنفس الأسى في نفس الوقت ولكن يمكننا أن يعوض أحدنا الآخر، وأن يعطي كل منا الأمل للآخر وأن يمد يده لغيره”، وفي زمن اكتساح القبح واشتداد الرغبة في الثراء على اعتبار أن المال سيحل المشكلات كلها دفعةً واحدة، يكتشف البطل والبطلة أن الإنسانية والدفء العاطفي أكثر فاعلية من المال بكثير في علاج التعاسة.

ورغم أني أعرف مقدمًا أن محمود حميدة موهبة كبيرة جدًا، فقد فوجئت مع ذلك هذه المرة بأدائه الذي فاق كل توقع، فهو رغم عبقريته كممثل لم أره من قبل بهذه الدرجة من رقي الأداء، بحيث كان في هذا العمل نموذجًا في التفوق على النفس، والمفاجأة الأكبر في شيرين رضا، فقد كنت أعتبرها ممثلة متوسطة ففوجئت في هذا الفيلم بأدائها المذهل، والذي لا نكاد نراه إلا في أفلام عالمية كبيرة.

اقرأ أيضاً: هل روجت السينما للدجل والشعوذة؟

سبب تميز فيلم فوتوكوبي

وهو ما قد يجعل المشاهد يتساءل: كيف حدث ذلك؟ وكيف يؤدي الجميع فجأة بهذا الجمال؟ والإجابة الوحيدة هي جدية العمل، فالعمل الذي يحمل فكرة جادة وجيدة والقائم على قصة حقيقية وسيناريو وحوار وإخراج حقيقيين– هذا العمل يكون قادرًا على أن يجعل كل شيء آخر بداخله مميزًا وخصوصًا أداء الممثل، فبصمة المخرج الموهوب تكون واضحةً جدًا على العمل الفني، وعندما تجد كل ممثل متفوقًا على نفسه فهذا لا شك وراءه مخرج لا يرضى إلا بأفضل شيء، حتى يجعل الممثل يفهم ما يريده منه بالضبط ويدفعه ليستخرج أفضل ما عنده، كما أن جدية الموضوع وجمال وصدق الحوار يجعل الممثلين أكثر اندماجًا وأكثر إحساسًا وإيمانًا بما يفعلون.

وهذا بعكس العمل الذي يجده الممثل تافهًا أو خفيفًا بلغة السينما، فلا يستطيع أن يثيره ليقدم أفضل ما لديه، فالممثل لا يستطيع أن يؤدي بصدق في عمل غير ناضج، ولا تسألني “ولماذا قبل هذا العمل من الأساس؟” بل اسأله هو، ومع ذلك فيمكنك أن تتخيل الأسباب، والحقيقة أن لكل ممثل أسبابه في قبول عمل متوسط أو ضعيف المستوى، بعضهم يقبل لأنه مثلًا يريد نقودًا، وبعضهم يريد ألا تطول فترة غيابه عن جمهوره، وبعضهم لا يجد أدوارًا جيدة فهو مضطر أو هكذا يبرر.

شخصيات فيلم فوتوكوبي

فيلم فوتوكوبي

تشعر بتأثير هذا الفيلم الجاد على الممثلين في صورة أداء تمثيلي غير مسبوق، وكأنك تكتشف أبطال العمل لأول مرة، محمود حميدة جسد ببراعة دور المسن الذي علمته السنين الحكمة فلم يعد يهتز من شيء، فصار يعيش أيامه ببساطة ويرد على كل شيء مهما كان مؤلمًا بابتسامة رضا، فالدنيا زائلة والأشياء تتساوى ولا شيء يستحق الانفعال، أما شيرين رضا فتشعرك ليس فقط بأنها تقدم أداء مختلفًا بل وأنها خرجت في هذا الفيلم من جلدها بقبول دور المسنة المريضة التي تمشى بصعوبة وتعيش أشجانها ومخاوفها لكن بلا تذمر أو اعتراض، وقد أدت هذا الدور الصعب المختلف بهدوء وانسيابية لا تصدق!

وحتى بيومى فؤاد، فلم يكن في هذا الفيلم مهرجًا ولم يقدم كوميديا الفارس التي اشتهر بها، بل أدى بإتقان شخصية مناقضة لشخصية البطل، حيث عبر عن تفشي الأنانية والطمع في مقابل العاطفة والإنسانية المفرطة في شخصية الحاج محمود والتي ظهرت في مشاهد الفيلم كلها، وخصوصًا عندما بدا عاجزًا لضيق ذات اليد عن دفع مصاريف الصيانة للعمارة التي بها محله المتواضع لتصوير وطباعة المستندات، ومع ذلك فعندما قبض معاشه المتأخر أصر على أن يقدمه كله “نقوطًا” للصبية جارته التي على وشك الزفاف التي كانت تشعر بوحدته وتسأل عنه.

اقرأ عن: اليهودي في السينما المصرية

فيلم فوتوكوبي للمخرج المصري تامر عشري

أعجبتني إنسانية الفيلم جدًا رغم تحفظي على بعض الأحداث غير المبررة، وكذلك ملاحظاتي على السيناريو والإخراج في بعض المشاهد، ولا تقلل بعض الهنات من قيمة العمل، خصوصًا عندما تعرف أنه الإخراج الأول لمخرجه تامر عشري والتأليف الأول لمؤلفه هيثم دبور، من هذه الهنات أن بعض الأحداث كان لا بد من مشاهدتها بدلًا من سماعها تُحكى، فالبطلة الست صفية العجوز المريضة وجدها المشاهد فجأة جالسةً تبكي في الشارع مع حقيبة ملابسها، لنراها بعد ذلك تحكي للحاج محمود أن ابنها الوحيد مهندس البترول الثري جاء من الخليج عندما سمع بنيتها في الزواج، جاء فقط لكي يطردها من الشقة ثم يسافر عائدًا إلى عمله، هذا الفعل مبالغ فيه جدًا وغير مبرر من الابن، خصوصًا أن أمه مريضة بالسرطان ومسنة، بينما هو من يسر الحال بحيث لا يحتاج إلى مسكنها القديم في تلك العمارة العتيقة، إلا أنه كان من الواجب على كل حال مشاهدة الحدث بدلًا من حكيه، وبالذات لأنه مشهد خطير من الناحية الدرامية ومن ناحية كونه فرصة لاستدعاء الأداء التمثيلي المتميز لو أخذ المشهد نصيبه من التنفيذ.

وعندما ذهب الحاج محمود (محمود حميدة) إلى “السايبر” يريد أن يستخدم الإنترنت لأول مرة، وقال إنه جاء ليبحث على محرك البحث عن إجابة لسؤال: “لماذا انقرضت الديناصورات؟”، ضحك عليه الشبان في السايبر مما أوقعه في حرج شديد.

لكننا لم نر الشبان وهم يضحكون ولم نر على وجهه الألم النفسي الذي سببه له ضحكهم عليه، بل سمعنا هذا كله يُحكى بعدها بمشاهد عدة، ولا أفهم السبب الذي جعل المشهد ينتهي عندما قال “أريد أن أعرف: لماذا انقرضت الديناصورات؟”، لنسمع البقية تُحكى بعدها بمدة، وكما قلنا فالحدث في السينما يجب أن يُشاهد لا أن يُحكى، كما أن كثرة الحكي على الشاشة تستدعي الملل، ويمكنني بوصفي كاتب سيناريو أن أتوقع سبب هذا الخطأ، وهو أن المخرج أراد أن يقلل مدة الفيلم بحذف ما يمكن حذفه منه، فحذف الجزء الخاص برد فعل زوار السايبر على ما قاله محمود وقال لنفسه: ما دمنا سنعلق على ما حدث في مشهد تالٍ وسيفهمه المشاهد وقتها فيمكن حذف الحدث نفسه الآن، وهو ما أوقعه دون أن يدري في خطأ الحكي بدل المشاهدة في صناعة تعتمد أساسًا على المشاهدة بدل الحكي.

ولكنها عمومًا من أخطاء قلة الخبرة، وهذه شيء في رأيي لا يمس جوهر الموهبة أو جمال الموضوع وجدية تناوله، وهو ما يمكن اكتشافه بسهولة على مدار 90 دقيقة هي مدة الفيلم.

هل يستحق فيلم فوتوكوبي المشاهدة؟

فيلم فوتوكوبي

فكرة انشغال البطل بالبحث عن سر انقراض الديناصورات قُدمت في العمل بصورة غير مباشرة موازية لرغبته في ألا ينقرض هو نفسه، فقد عاش لما بعد الستين ولم ينجب، لكن هذا خلط غير منطقي بين الانقراض وعدم الإنجاب، فالديناصورات انقرضت بالكامل كجنس ولم تنقرض لأن أحد الديناصورات لم ينجح في التناسل! ومع ذلك فيمكن قبول هذا التفكير باعتباره تفكيرًا شخصيًا لرجل طيب وبسيط يجسد رغبته في أن يترك ذكرى بعد وفاته، هكذا رغب محمود في أن يتزوج الست صفية فيحصل على أنيس فيما تبقى من عمره، ويترك بعد وفاته ذكرى في قلب شخص يحبه فلا تنقرض من الدنيا ذكراه، وهو يريد الزواج بها مع أنه يعلم بتفاصيل حالتها الصحية ومرض السكر واستئصال الثدي وغيرها، متخطيا بذلك جمال الجسد إلى جمال الروح، وسنرى كيف أعادت لها رغبته تلك روحها وثقتها بنفسها بعد أن ظلت تعتقد أنها قد صارت بقايا أنثى، حتى أنها راحت بينها وبين نفسها تغني وتتمايل مع الأغنية رغم مرضها، وهو بالتأكيد ما لا يمكن أن تفعله أمام الناس، في مشهد محوري لتجسيد فكرة الفيلم وهي: أنك تستطيع أن تعيد الحياة لإنسان مهما كان بائسًا إن أعطيته بعض الأمل.

ورغم ما في الفيلم من أخطاء فنية سهلة إلا أن السيناريست والمخرج استطاعا تقديم حكاية حلوة لا ينقصها التشويق، وتستطيع جذب المشاهد من أول مشهد لآخر مشهد بسلاسة وانسيابية، لتؤثر فيه من خلال معنى إنساني حقيقي وفكرة إنسانية، ولذلك فحتى لو كنت ناقدًا لا تخفى عليه أخطاء العمل الفني ستجد نفسك في فيلم فوتو كوبي ميالًا إلى التسامح مع هذه الأخطاء في مقابل الحالة الإنسانية الناجحة والقصة الناعمة الجميلة الدافئة.

مشاهدة هذا الفيلم تعيد إلى الذهن مباشرة سؤال: ما الفن وما فائدته؟ وما مقدار تأثير الفن في المتلقى؟ والحقيقة أن كثيرًا من الأفلام تجعلك تضحك ولو على تفاهات، وقليل منها يجعلك تضحك وأنت تتأمل بعمق وسخرية، ولكن نادرًا ما تجد فيلمًا يحرك مشاعرك وإنسانيتك أو يجعلك ترغب في البكاء، وهو ما ينطبق على فيلم ” فوتو كوبي”.

اقرأ أيضاً: نجيب محفوظ والسينما

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف