فن وأدب - مقالاتمقالات

فيلم “برا المنهج”.. نقطة نور لم تدم طويلًا

بعد المشاهدة الثانية لفيلم “برا المنهج”، تجلتْ أمامي حقيقة أو ربما مُعضلة يتوجب أمام صُنَّاع أي عمل سينمائي حلَّها، تلك الحقيقة ذات وجهين، يتبدى وجهها الأول في السينما التجارية الاستهلاكية التي تستقطب الجمهور، وتأتي به أمام شباك التذاكر، والوجه الآخر يعتمد على العُمق، ويقوم على التجريب، فلا تُطرح الفكرة مباشرة أمام المشاهد، بين هذين القطبين يبتعد أو يقترب العمل السينمائي بدرجة ما عن الوضوح الذي يصل إلى حد السذاجة أو يبتعد عنه إلى حد الغموض، واللعب في المساحة المشتركة بينهما نجاة من هذين الفخين.

سينما المؤلف

فيلم برا المنهج ينتمي إلى النوع الثاني، لكن بدرجة ما، دون أن يفقد حساسيته تجاه فكرة “الرَّواج” التي تحاول أن تستقطب إلى ساحتها الجمهور العادي، على ألا تخسر النُّخبة التي تبحث عن العمق، هذا النوع يتطلب أن يكون مخرج العمل مؤلفه أو مشاركًا في كتابته، كما فعل عمرو سلامة في هذا الفيلم، هنا توجد فكرة، يصعب ربما سردها “في سطر واحدٍ” كما أشار فرانك هارو في كتابه “فن كتابة السيناريو”، فالفكرة القائدة التي تحاول أن تجيب عن السؤال “عم يتحدث الفيلم” لا يمكن –في هذه الحالة– اختصارها في كون طفل في حدود الثالثة عشر يتعرض للتنمر من زملائه بسبب ضعف بصره، واتساخ ملابسه، ورائحته الكريهة التي تُنفر كلَّ مَن يقترب منه.

فنيًا يطرح الفيلم فكرة الكذب، وتقبيحها تقبيحًا غير مباشر، فالكذب معادل للتلاشي، والانزواء والتخفي، وتحول البشري إلى شبح، أو شبيه بالشبح، غير قادر على إخافة بعض الأطفال الذين يكشفون سره، التلاشي في حالة “أحمد وحيد” كان نتيجة التزييف وتغيير الحقائق، كان في زمن الهزيمة بُوقًا لنظام تلقى الضربة القاضية، لكنه حقن الشعب بمزيد من الأكاذيب عن الانتصارات الوهمية، وعندما “طلع النهار”، فضحتْ شمسُه الزائفين، فجنود معركة “النكسة” كانوا بين جريح وقتيل، والقادة أمام الحقيقة المُرَّة، حقيقة الهزيمة، وحقيقة الكذبة الكبيرة، والشعب الذي نبذ “البوق”، فترك أهله واحتمى في أسمال “عفريت”.

كذبة كبيرة وأخرى صغيرة

برا المنهج 1639744515 0 - فيلم "برا المنهج".. نقطة نور لم تدم طويلًا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثمة كذبتان، واحدة كبيرة يمثلها “أحمد وحيد”، والأخرى صغيرة يجسدها “نور”، لكن يشفع للأخير كونه طفلًا دفعته ظروف الفقر والقهر، وغياب الأب الحاني إلى ذلك، تكوين الصورة في المشاهد التي يظهر فيها ذو دلالة واضحة، إذ البيت الطيني الأشبه بالكوخ المسقوف بالجريد، وأعواد الذرة الجافة، بجوارها “طلمبة” مياه، وفي الداخل لمبة جاز، بجوار باب قديم، وثمة دولاب مهترئ طلاؤه ساقط، لا يحوي شيئًا، حتى الحمام الذي تُحممه فيه خالته مُكوَّن من أعواد ذرة مستندة على جذوع شجر، لا تستر جسدًا عاريًا، كل ذلك اختصار لمعاني العوز والفاقة، وتسلط زوج الخالة، وقهره لزوجته وأبنائه.

فيلم برا المنهج ليس عن الكذب فقط بل عن غلو السلطة وعنفها، وتعلقها بالوهم، حتى لو كانت تلك السلطة في يد معلم ومدير مدرسة، يلجآن إلى الطفل “نور” ليتشفع لهما عند “العفريت” أو ما يظنونه كذلك، وهي دلالة رمزية على التناقض بين كونهما حاملين للعلم، واعتقادهما في تلك الخرافة، إنه نوع من الزيف يُمارسه فريق آخر في المجتمع، مُوكَل بهم إنارة العقول، وبناء الإنسان، وإعداد النشء.

اقرأ أيضاً: أسباب العنف المدرسي ونتائجه

تجاور الأضداد

يتحرك “نور” شخصية الفيلم الرئيسية في ثلاثة أماكن؛ البيت والمدرسة والمنزل المهجور، وفي تلك الأماكن ترتسم علامات الفقر، فالمدرسة مكتوب على سورها “مدرستي جميلة متطورة”، بجوار جدارية أخرى “العلم هو سلاح المستقبل”، وفي الفصل لوحة مكتوب عليها “من جَدَّ وَجَدَ”! تلك المفارقة الدالة على التناقض الحاد بين حضور شعار العلم، وغيابه فعليًا على أرض الواقع، والشيء نفسه بالنسبة إلى المدرسة التي ترفعُ الجمالَ شعارًا “زائفًا” في حين أن الواقع غير ذلك تمامًا.

ثالث الأماكن “المنزل المهجور” أيضًا خال من الجمال، فالشجر جاف الغصون والجذوع، معادل آخر لجفاف حياة الطفل “نور” التي يتناقض كل شيء فيها، فبتمعن الاسم نجد أنه يتضاد مع ضعف البصر الذي يُعاني منه، وكأن الاسم نفسه نوع من الكذب/الغطاء وستر الحقيقة الموجعة، لذلك أطلق زملاؤه عليه “عماشة”، ومن هنا تتضح فكرة الثنائيات المتضادة التي لا ترتكز عليها فكرة الفيلم فقط بل الحياة برُمَّتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الحبكة التقليدية

109740Image1 775x445 d - فيلم "برا المنهج".. نقطة نور لم تدم طويلًايقول أرسطو في كتابه “فن الشعر” إنَّ الحبكة جيدة البناء لا بُدَّ لها من بداية ووسط ونهاية، حاول الفيلم الهروب من تلك الحبكة، والتمرد عليها بتفتيت المَشَاهد إلى أجزاء عدة، وتأرجح البطولة بين “نور” و”أحمد”، فتبدو الحكاية عاجزة عن التصاعد، ومفتقرة إلى الشخصية المتطورة التي تدفع الأحداث إلى الذروة المُفضية إلى النهاية، وتخلصًا من ذلك رفعتْ شخصية “نور” راية العصيان على ما أسماه فرانك هارو “رحلة البطل”، واصفًا إياه بأنه “انتقال البطل من نقطة معطاة في بداية الفيلم إلى نقطة معطاة في نهايته”، وليست هذه الرحلة انتقالًا بمعناه الحرفي دائمًا، بل غالبًا ما تكون تحولًا جسديًا أو عاطفيًا أو نفسيًا تعيشه الشخصية الرئيسية، وهو ما يدعوه البعض “القوس التحولي لبطل الفيلم”.

يُمثل لقاء “نور” بشخصية “أحمد” ما يطلق عليه أيضًا فرانك هارو “الحدث القادح أو العنصر القادح، وهو العنصر الذي يسمح بالوصول إلى العُقدة الدرامية الرئيسية الأولى التي تكسر روتين البطل، وتجعله يحصل على هدف”، وفي حالة “نور” ثمة عنصران قادحان، أولهما لقاؤه بـ”أحمد”، والثاني لقاؤه بمُدرسة الموسيقى “جيهان”، التي تؤمن به –إنسانًا– وبقدراته، ويأتي مَشهد غنائها له في حجرة الموسيقى، ووصفها له في الأغنية بالولد “الأمُّور” القادر على هزيمة الشبح، في دلالة رمزية على إمكانية الفن في منح التقدير للإنسان، وتغييره إلى الأفضل، كما تجلى أيضًا في شخصية البنت “سهام” التي يُعجب بها “نور”، والتي مثلتْ النقطة المضيئة في حياته.

اقرأ أيضاً: الكذب والدونية

سُلطة الخرافة

لا يُشير الفيلم إلى تسلط الفقر والقهر والقسوة فقط على مصائر الشخصيات، بل يتعداها إلى سُلطة الخرافة، فالبنت التي يُحبها “نور” عندما تعلم باتصاله بالشبح المزعوم، وقدرة “نور” على الدخول والخروج كيفما شاء إلى المنزل المهجور، وأيضًا إخافته، تطلب منه أن يأتي بـ”أتر” من الشبح كي تتمكن أختها من الإنجاب، والمدرس “جبريل” يترجاه أن يجعل الشبح “يفك الربط بينه وزوجته”، وزميله يطلب منه أن يحميه “الشبح” عندما يتبول على نفسه، وزميل آخر يطلب منه أن يتوسط له عند “الشبح” كي يشفي والده.

كل ذلك يُظهر وَجْهَي الحياة؛ الأول داخل المنهج، وهو الرواية الرسمية وما يُملى علينا، ويتسلط بقوة القهر وقوة التزييف، ووجه آخر يقلب تلك الرسمية ويُظهر حقيقة الأشياء، يُغيِّر كثيرًا مما ألفناه ووجدنا عليه آباءنا، يتمرد على سلطة الدين والمُعلم والخرافة عندما تنحرف عن مسارها، يجبرها على تصحيح ذلك المسار ومعالجة الأخطاء، ورفض القبول غير المشروط لكل المعارف التي نتلقاها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فخ المباشرة

عمرو سلامة عن برا المنهج 1 - فيلم "برا المنهج".. نقطة نور لم تدم طويلًا

لم يتورع الفيلم عن استمراء حلاوة الفكرة، فانجرف في إلحاح مؤكدًا نبذه لصفة الكذب، ومع تكرار الحديث عنها، تحول الفيلم –في كثير من مواضعه– إلى ما يُشبه الموعظة التي جعلت بعض الأحداث –خاصة في ثلثه الأخير– أقرب إلى السطحية منها إلى العمق الذي بدأ الفيلم مُبشرًا به.

مقالات ذات صلة: 

مراجعة فيلم “في هذا الركن الصغير”

التنمر .. السلوك الذي يعبر عن شخصية صاحبه

اضغط على الاعلان لو أعجبك

شاهدت فيلم فضل ونعمة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د./ أحمد جاد الكريم

كاتب وروائي دكتوراة في النقد والأدب

مقالات ذات صلة