العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع والثمانون
المدرسة المشّائية: (87) أبو الحسن العامري وكتابه: "الأمد على الأبد": فلسفة الزمان والأبد [4]: المعاد: أبد الزمان اللا متناهي

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، عن أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد [3]: الأبد: فلسفة الزمان اللا متناهي.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتنا التأويلية للفيلسوف أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد.
شرف الحكمة ونور الملة يوجبان فضل الغبطة في الآخرة
بعد أن قدم العامري مقدمات واضحة: من الاستقلال الذاتي للنفس عن البدن، وأنها محل المعقولات المؤبدة، وأن الموت لا يحل بها، وأن سنخها (أصلها) نوراني إلهي، راح يستنبط النتيجة عن تلك المقدمات:
“وإذ قد ظهر هذا، فمن الواجب أن نعلم أن كل من أيقن بشرف الحكمة، ثم شاهد جماعةً ممن ليسوا من أهلها أغبط عيشًا في هذه الدنيا ممن هو أهلها، فقد اضطره الرأي إلى أن يوجب له فضل الغبطة (السعادة) في الدار الآخرة”.
“فإذًا: الموقن بشرف الحكمة جديرٌ بأن يكون سعيه متجردًا لأن يجعل نفسه مفارقةً لجسده تصفيةً، وإن كانت متحدة به طبيعةً”.
النور الذاتي للنفس: يحتاج إلى “أوضاع الملّة” و”صناعة الحكمة” لإظهار فضائلها
يحتاج الإنسان لبلوغ كمال فضائله الأخير والأخروي إلى الملة والحكمة معًا، وفي ذلك يقول أبو الحسن العامري، في نصٍ بديع: “إلا وإنها (النفس النطقية) وإن كانت فائزةً بنور العقل، فإنها لن تقوى على التطلع به إلى العالم العلوي ما لم يعاونها نور الملة ونور الحكمة. فهي إذًا بمجموعهما تصير منيفةً (مطلةً) على الملكوت الأعلى في معدن الروحانيين. وكما أن القوة الطبيعية في البذور تكون متضمنة لجميع ما تبديه من الزهر والثمر، إلا أنها لن تستغني عن الفلّاح لها بالتسميد والتكريب (السماد العضوي)، كذا النفس النطقية تكون بنورها الذاتي متضمنةً لما تبديه من زهر الفضائل، إلا أنها لن تستغني في إظهارها عن أوضاع الملة وصناعة الحكمة”.
النفس النطقية: قنيات أبدية وصور مؤبدة صالحة للخلود
ويقول العامري: “فقد ظهر إذًا أن النفس النطقيةَ، بقنياتها (بما تمتلكه وتقتنيه) الأبدية وصورها العقلية، أشبه شيء بالمعنى الإلهي وأصلح للبقاء الأبدي، وأن انتقاص البدن وانحلاله ليس بموجب فسادها وتلاشيها”.
الحكمة أثرٌ من كبرياء الله
“إذًا: كل إنسان كانت نفسه غير متبعة للملاذ البدنية، بل كانت ملتئمة إلى ذاتها ومباينة (مخالفة) للبدن في إرادتها، فإنها لاستحكام ثقتها بمن هو أوله وآخره، وصدق موالاتها لمن له الخلق والأمر، تنال الراحة من السدور (المتاعب) الإنسي، وتأمن المخاوف، وتسلم من الحيرة. وسببه أن الحكمة أثرٌ من كبرياء الله– ولا كبرياء فوق كبريائه. وإن من آثرها (فضلها) وتشرف بزينتها فهو لا يعد المال جمالًا ولا الرياسة كمالًا، ولا يخضع لجاهٍ وإن جلّ ولا للذةٍ وإن عظمت، بل لا يعد الدنيا وما حوته ثمنًا لنفسه الزكية”.
نجاة النفس: الأوضاع الملّية: السبيل إلى زينة العالم العلوي
بعد هذه الحجج كلها لا يتركنا العامري دون أن يبين لنا كيف تنجو النفس من شهوات البدن وتنال خلودها اللائق بها، وقد أوضح ذلك في نصوص آنفة الذكر، ويختم بهذا النص، فيقول: “ثم إذا لم يجرد العقل عن الحس فإن البدن سيجذبه من باب التمييز إلى الأبواب التي تشاركنا فيها أصناف الحيوان، بل يشغله عن التعرف للمعاني الحقيقية التي تنيف (ترتفع) بنا على طبائع الموجودات، وإذا كان العبد ممنوًّا من جبلته بمثل هذه الخطة العظيمة– فلقائل أن يقول: كيف السبيل إلى النجاة؟
الإنسان: دينيٌ بالطبع
كيف السبيل إلى النجاة؟
إنها الشريعة هي سبيل النجاة. وفي ذلك يقرر العامري بقوة عقلية حكيمة: “جوابه: أن الله جل جلاله قد أزاح علته بالأوضاع الدينية والمثل الشرعية. فإنها أسست على منهاج تصدف (تترك) الأنفس النطقية عن الأشياء المعرضة للفناء إلى الأشياء الصالحة للبقاء، السالك بنا عن الظلام الدامس إلى الضوء المسفر، ليسترقي بها الإنسان من طبائع البهيمية إلى رونك (رونق: حسن وبهاء) الحكمة، بل من العالم السفلي إلى العالم العلوي. ولهذا ما قيل: “إن الإنسان دينيٌ بالطبع”.
“فمن الواجب أن يثقف (يهذب النفس) النطقية بالمواظبة على الأوضاع الملية، ليتدرج بها إلى إصابة الحق والاعتقاد للحق والمتابعة للحق والإيضاح للحق. ومتى لحقته المرية (الشك) في شيء من أبوابها يستعين عليها بالصناعات المنطقية، متمسكًا فيها بالبحث المستقصي، ومحافظًا على الترتيب المنتظم، وملازمًا للطريقة المستقيمة التي لا تشينها (تعيبها) هوادةٌ ولا ميلٌ. فيوقن أن الله جلّ وعز قد شرّف جوهره بنور العقل ليتعاطى به خلافته على عمارة العالم السفلي، فيتدرج به إلى أن يصير زينةً للعالم العلوي. فإنه متى دنّس جوهره واستهلك ذاته فقد خسر الدنيا والآخرة. بل يتحقق أن الله جل جلاله أوله وآخره، فلا ينقطع عنه، ولا يؤم سواه، ويتبرأ ممن عدل عنه وآثر صحبة غيره عليه”.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع الفيلسوف أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد [5]: المعاد: طريق الإنسان إلى الأبد.
مقالات ذات صلة:
الجزء الثامن والثمانون من المقال
الجزء السابع والثمانون من المقال
الجزء السادس والثمانون من المقال
الجزء الخامس والثمانون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا