مقالات

عن أصل الفلسفة أتحدث

عجبت ممن لا يزالون يتحدثون عن مسألة أصل الفلسفة، ويعتقدون أنهم ليسوا بحاجة لمناقشة الموضوع على اعتبار أن لفظة «الفلسفة» يونانية، وأن فلاسفة اليونان منذ القرن السادس قبل الميلاد هم أول من أعمل عقله في التساؤل عن أصل الوجود وقدموا الرؤى المختلفة عن ذلك كل حسب اقتناعه وحججه العقلية.

وهم في ذلك لا يزالون يتجاهلون ما أفنى المرء فيه عمره محاولا الكشف عن خرافة ما أطلقوا عليه «المعجزة اليونانية»، سواء في أبحاث متفرقة أو في كتب مثل «نحو تأريخ جديد للفلسفة القديمة» أو «الفكر الفلسفي في مصر القديمة» الذي يتم ترجمته الآن للغة الإيطالية، أو «الخطاب السياسي في مصر القديمة» الذي تفضلت الهيئة المصرية للكتاب بنشره ضمن مكتبة الأسرة لتعم الفائدة ويقرأ على نطاق واسع،

أو «الفلسفة الشرقية القديمة» فلقد أوضحت في كل هذه الكتب أن لفظة الفلسفة نفسها من أصل مصري قديم نجح برنال –في كتابه الشهير «أثينا السوداء»– في بيانه، كما أن فيثاغورث أول من استخدمه واستقاه من مصر القديمة قد تعلم في مصر معظم أفكاره من الهندسة وعلم العدد إلى سرية التعاليم الفلسفية!!

خرافة “المعجزة اليونانية”

لقد تناسى هؤلاء المؤمنون بالمعجزة الغربية – اليونانية في نشأة الفلسفة أن للحضارات الشرقية فلسفات وفلاسفة سبقوا نشأة الفلسفة عند اليونان، وأن الفلسفة كأي نشاط فكري آخر للانسان قديمة قدم وجوده، وأنه لم يوجد منذ بدء وجوده على ظهر الأرض إلا ليتساءل، أي ليفكر، وكان أهم مظاهر هذا التفكير التفكير الفلسفي في أصل الوجود، وأصل الكون وما وراءهما، وطبيعة الإنسان ومصيره.

لقد تجمد هؤلاء عند مقولات أرسطو عن معنى الفلسفة ونشأتها عند طاليس وفلاسفة ملطية القديمة منذ القرن السادس قبل الميلاد، وتناسوا أن الفلسفة طبعت في كل عصر من عصورها بخصائص هذه الحقبة أو تلك من حقب التاريخ الحضاري للإنسان،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومن ثم فقد اختلفت صورة التفكير الفلسفي وتأملات الإنسان الفلسفية وتطورت حسب تطور حياته من عصر إلى آخر، وأن كل واحدة من الحضارات الإنسانية الكبرى ظهرت وتميزت بخصائص فكرية معينة.

وكان المفكرون والفلاسفة هم دائمًا قادة الفكر ورواد الإبداع في كل هذه العصور، بل هم من صنعوا بأفكارهم وتأملاتهم ومذاهبهم الفكرية الفارق بين عصر وآخر، وهم من أيقظوا الناس وقادوهم إلى كل القفزات الحضارية الكبرى عبر التاريخ الإنساني.

وعلى ذلك فإنه لا ينبغي –من وجهة نظري– أن نصبغ التفكير الفلسفي قديمه وحديثه ومعاصره بصبغة أرسطية يونانية، لأن العصر اليوناني ومثله الكبير أرسطو قد عرفوا الفلسفة وحددوا المنهج الفلسفي فى إطار عصرهم وصنعوا من خلال هذا التعريف المحدد للفلسفة بأنها علم دراسة الوجود بالنظر العقلي الخالص مجدهم الفكري.

الفلسفة الشرقية القديمة والفلسفة اليونانية

إن علينا أن ندرك أن الإنسان في كل العصور السابقة كان له فلسفته ورؤيته لحقيقة الوجود وأن كل هذه الفلسفات الشرقية القديمة وتبعًا للمرحلة الحضارية التي ظهرت ونمت وازدهرت فيها كانت محاولات فذة من قبل أصحابها فرادى كانوا أو جماعات مجهولة الأسماء والكتابات لإبراز رؤى مختلفة ومتمايزة حول الكون، أصله وطبيعته، حول الإنسان، أصله وطبيعته، حول الأخلاق الإنسانية وتشكيل المجتمع الإنساني المتحضر.

وبالطبع فإنه مهما كانت نظرتنا إلى مدى تميز الفكر الفلسفي اليوناني عن الفكر الفلسفي في هذه الحضارات الشرقية الكبرى السابقة عليه، فإنه لا شك قد أخذ منها ونقل عنها وتأثر بها، فالصلات الحضارية بين بلاد اليونان في مهدها وبين تلك الحضارات الشرقية القديمة العريقة كانت دائمًا موجودة بشكل أو بآخر.

إن أنصار «المعجزة اليونانية» خاصة و«المعجزة الغربية» عموما عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويُعملوا عقولهم في بديهية تقول: إن الإنسان خُلق ليفكر ويُعمل عقله في جنبات الوجود، وليس من المعقول أنه منذ وجوده على ظهر الأرض كان خلوا من التفكير الفلسفي!

كما أنه لا يمكن بحال أن ينسب كل الإبداع العقلي علوما كان أو فلسفة للغربيين لأن هذه «خرافة» يكذبها تاريخ الفلسفة والعلم فهم –أي الغربيون– على أقصى تقدير قد أبدعوا في إطار ما نقلوه وتعلموه من الحضارات الأخرى قديما ووسيطا وحديثا.

ومعنى ذلك أنهم لم يصنعوا «معجزة على غير مثال سابق» عبر تاريخهم الطويل، فهم دائما يمثلون حقبة من حقب التطور الفكري للبشرية لها ما قبلها ولها ما بعدها.

“منقول بإذن من كاتبه”

اقرأ أيضاً:

دور حضارات الشرق القديمة في بناء الفكر الأخلاقي عند اليوناني

في رحاب الفلسفة

الكندي فيلسوف العرب والمسلمين

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. مصطفى النشار

رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، ورئيس لجنة الفلسفة بالأعلى للثقافة