قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثامن والأربعون

المدرسة المشَّائية: (46) إخوان الصفا: وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [2] مُنجزات العلوم والتعاون الفلسفي بين البشر

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 47) إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [1] المقدمة: مشروعٌ إنسانيٌ لا فرقَ فيه بين الفِرَق.

ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

إخوان الصفا: رؤيةٌ كونيةٌ مبنيةٌ على منجزاتِ العلومِ

كتب الإخوان رسائلهم إبان زمن من أزهى عصور التاريخ الإسلامي، في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، عصر ازدهار العلوم: الرياضية والطبيعية، الفلسفية والدينية، وكذلك عصر الفتن والقلاقل والاضطرابات من كل نوع. كتبوها بأسلوب تثقيفي تنويري تعليمي “بيداغوجي”. وقد أسسوا رؤيتهم الكونية الفلسفية على منجزات العلوم كلها، فكانوا معبرين عن تطور العلم في عصر العلوم (الوافدة والأصيلة) خيرَ تعبير. فكانوا “إنتليجنيسيًا”/طليعة مثقفي زمانهم، وقادة تنوير عصرهم، ودعاة المذهب الإنساني الكوني فيه.

إن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها وأحقهم. ورسائل إخوان الصفا تكاد تشملُ فروع المعرفة جميعَها وتعطي لجهود الجنس البشري معناها وحقها، على حد تعبير هنري كوربان. وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “وبالجملة ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى ألا يعادوا علمًا من العلوم أو يهجروا كتابًا من الكتب، ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب، لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم كلها”. لذلك تغلب النزعة الإنسانية الميتافيزيقية على النزعة العلمية الخالصة عند إخوان الصفا. فلم يكونوا شيعة أو معتزلة أو سنة أو أرسطيين أو أفلاطونيين محدثين أو فيثاغوريين جدد أو غنوصيين، إلخ (وقد وظفوا هؤلاء كلهم لمصلحة رؤيتهم الفلسفية الكونية)، بل كانوا جماعةً إنسانيةً فيها من الفرق كلها، ولم يكونوا فرقةً بعينها، وقد يكون من الظلم تقزيمهم في فرقة واحدة. لقد انفتحوا على سائر التيارات والاتجاهات الفكرية والأديان جميعها، وإن فضلوا الإسلام لأنه كمال أخير للأديان جميعًا، (لا كما تقوَّل دي بور على إخوان الصفا بأنهم يعتبرون المسيحية والزرادشتية دينين أقرب إلى الكمال، ولا أنهم كانوا يرون أن ثمَّ دينًا عقليًا فوق الأديان جميعًا ولا أنهم حاولوا أن يستنبطوا هذا الدين المزعوم استنباطًا عقليًا ميتافيزيقيًا!). يستشهدون بالقرآن والأحاديث، ويعتمدون الرؤية الكونية القرآنية للعالم والكون والإنسان، بعد برهنتها عقليًا، فصاغوا فلسفةً متميزةً ذاتَ طابعٍ إنساني كوني عقلاني في الغالب (أقول في الغالب لأن لهم –مثل غيرهم من الفلاسفة– خرافاتهم وأساطيرهم!).

يعرِّف إخوانُ الصفا الفلسفة بأنها: “الفلسفة أولها محبةُ العلوم، وأوسطُها معرفةُ حقائق الموجودات، وفق الطاقة الإنسانية، وآخرُها القول والعمل بما يوافق العلم”.وقد وصفَ إخوانُ الصفا أنفسَهم بأنهم: “إخوان الصفا وخلان الوفا، أهل العدل، أبناء الحمد، أرباب الحقائق، أصحاب المعاني، في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق، لبلوغ السعادة الكبرى والجلالة العظمى، والبقاء الدائم والكمال الأخير”.

وفي تعريف إخوان الصفا لأنفسهم تحديدٌ لهدفهم وغايتهم: تحقيق الكمال الإنساني في الدنيا، والفوز بالسعادة الكبرى والخلود في الآخرة. ولتحقيق هذا الهدف وتلك الغاية قدم إخوان الصفا رؤيةً كونيةً: لله والعالم والإنسان، مبنيةً على علوم الإنسان وما أُنجِز منها عبر التاريخ البشري، وليس على علوم المسلمين وحدهم، أي رؤية كونية فلسفية مؤسسة على علوم الأولين من اليونانيين وغير اليونانيين، وعلى علوم الآخرين من العلماء المسلمين، حتى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فتميزت رؤيتهم الكونية بالعالمية.

كانت عالميتهم فوق التحزبات والمذهبيات الفكرية والدينية، وانتقلوا من منطق الفَرق بين الفِرق والفرقة الناجية، إلى منطق الجمع بين الفرق، فالنجاة ميسورة للموحدين جميعهم. وفي ذلك يقول الإخوان: “ونحن من هذه (الفِرَق المتفرقة) كلها براء مذهبنا واحد واعتقادنا واحد، وكلنا موحدون مؤمنون مسلمون، غير مشركين ولا منافقين”. غايتهم، كما يقولون: “الخلاص من بحر الاختلاف، والخروج من سجون أهل الخلاف”. ولسان حال إخوان الصفا يقرر، وفق قولهم على لسان واحدٍ منهم: “لا أريد لأحد من الخلق سوءًا، ولا أضمر لهم دغلًا (خداعًا وفسادًا وريبةً)، ولا أنوي لهم شرًا، نفسي في راحة، وقلبي في فُسحة، والخلق من جهتي في أمان. أسلمتُ لربي مذهبي، وديني دين إبراهيم عليه السلام، أقول كما قال: “فمن تبعني فإنه مني، ومن عصاني فإنك غفور رحيم”.

إخوان الصفا: حاجة الإنسان إلى التعاون العلمي الفلسفي

رسائل إخوان الصفا

يقول الإخوان: “إن الإنسانَ الواحدَ لا يقدر أن يعيشَ وحده إلا عيشًا نكدًا، لأنه محتاجٌ إلى طيب العيش من إحكام صناع شتى، ولا يمكن الإنسان الواحد أن يبلغها كلها، لأن العمر قصير والصنائع كثيرة، فمن أجل هذا اجتمع في كل مدينةٍ أو قريةٍ أناس كثيرون لمعاونة بعضهم بعضًا”. “واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه ينبغي لك أن تتيقن بأنك لا تقدر أن تنجوَ وحدك مما وقعتَ فيه من محنة هذه الدنيا وآفاتها”.

لقد استهدفوا إصلاحًا دينيًا ومصالحَ دنيوية، وذلك كله يحتاج إلى التعاون الإنساني، هذا ما قرره أفلاطون وأرسطو من قبلُ، لكنهم –لأول مرة– يقترحون ما أسميه: “التعاون الفلسفي بين البشر”. وهذا التعاون الإنساني يقوده إمامٌ واحدٌ، هو –على حد تعبير ديكارت– أعدلُ الأشياءِ قسمةً بين الناس، وهذا الإمام العادل هو: العقل.

إخوان الصفا: جماعةٌ إمامُها العقل وقوةُ واضعِ الشرع

يقول الإخوان في نص دالٍ: “ونحن قد رضينا بالرئيس على جماعة إخواننا، والحَكَم بيننا، العقلَ الذي جعله اللهُ تعالى رئيسًا على الفُضلاء من خلقه الذين هم تحت الأمر والنهي، ورضينا بموجبات قضاياه، على الشرائط التي ذكرناها في رسائلنا وأوصينا بها إخواننا. فمن لم يرضَ بشرائط العقل ومُوجِبات قضاياه، ولم يقبلْ تلك الشرائط التي أوصينا بها إخواننا أو خرج عنها بعد الدخول إليها، فعقوبته في ذلك أن نخرجَ من صداقته ونتبرأَ من ولايته”. “واعلم أن العقلاء الأخيار إذا انضاف إلى عقولهم القوة بواضع الشريعة فليس يحتاجون إلى رئيس يرأسهم ويأمرهم وينهاهم ويزجرهم ويُمَكَّن عليهم، لأن العقل والقدرة لواضع الناموس يقومان مقام الرئيس الإمام”.

وباعتبار إخوان الصفا العقل إمامًا لهم، إلى جانب الشرع، شيدوا استراتيجيًة ثقافيةً منفتحةً على العلوم الرياضية والمنطقية والطبيعية والإنسانية والفلسفية، والدينية كلها. كأنهم كانوا يرومون إنسانًا كونيًا أعلى، وبشرًا يتألفون ويجتمعون بعلم اجتماع جديد: علم الاجتماع الفلسفي.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [3] تقسيم العلوم والرسائل.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الرابع والأربعون من المقال

الجزء الخامس والأربعون من المقال

الجزء السادس والأربعون من المقال

الجزء السابع والأربعون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج