مقالات

حقيقة الواقع تفرض نفسها

أحمد ومصطفي صديقان يسير كل منهما من بيته إلي المدرسة وذات يوم وهم خارجون من المدرسة قال لهم أحد أصدقائهم بأن هناك حفرة في طريق أحمد للمنزل، وقاموا بسؤال أحد البائعين هناك أيضًا وأخبرهم بأن الخبر صحيح فأصر أحمد على أن يسلك نفس ذات الطريق وقبل أن يتفرقا قابلهم أحد السائرين وقال لهم إن كنتم ستمرون من خلال هذا الطريق فأنصحكم باستبداله بطريق آخر؛ لأن هناك حفرة فيه.

واستمر أحمد على إصراره رغم أن مصطفي قال له أن الخبر الآن أصبح صحيحًا ويجب ألا تسلك ذلك الطريق حتي لا يصيبك أي أذي ولكن أحمد استمر في ذلك الإصرار واستمر في طريقه وتفرقا الاثنان، وفي اليوم التالي لم يجد مصطفي صديقه أحمد في المدرسة فقرر أن يزوره لربما قد يكون هناك مكروه أصابه

فحين وصل لمنزله، وطرق الباب خرج والد أحمد فسأله مصطفي عن ابنه أحمد فقال له اذهب له؛ إنه بالأعلى قد سقط البارحة في حفرة وكسرت يده
فراح مصطفي يحدثه قائلاً لماذا لم تسمع الكلام يا صديقي؟! كان بالإمكان تلاشي كل هذا الضرر فقال له أحمد أنا رأيتها ولكني سقطت حين وقفت أنظر من على الحافة.

النظرة الناقصة

الأمر البديهي لدي كل إنسان أنه إن لم يعترف بوجود شيء ما في الخارج وكان ذلك الشيء موجودًا حقًا فعدم اعتراف الناس به مهما كان كثرتهم لا يلغي حقيقة وجود هذا الشيء، وهذا ما ينطبق علي الواقع بما يحمله من قوانين وحقائق ثابتة، فحين كان هناك تنافس بين العلم والدين في أوروبا بالعصور الوسطي وصولاً إلي عصر النهضة كان الإنسان يفر من حاكمية الدين وعباءة الكنيسة إلى بديل آخر يمنحه حريته الحقيقية والسعادة التي يصبو إليها والمنهج المجتمعي الذي يوفر له العدالة والاستقرار ويمنحه الحقوق التي تعينه على الحياة،

ولكن ما حدث هو الانتقال من أقصي التبعية العمياء للكنيسة إلى الجحود كليًا بأي منهج ديني أو أي أمر معنوي من الأساس، والتعامل مع الإنسان علي أنه ذلك الحيوان المتطور الذي وصل به التطور ليصنع حضارات ومجتمعات، وذلك كان بعد التوصل للكثير من الاكتشافات العلمية التي كشفت ضلال منهج الكنيسة آن ذاك وخطأ فكرها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن ماذا فعل هذا الإنسان بتلك النظرة لنفسه وللكون؟، استمر في تطوره المادي المشهود له والذي مكّنه من أن يطوي المسافات ويجعل عالمه مجرد قرية صغيرة من الممكن التنقل عبر أركانه بسرعة كبيرة أو التواصل مع من في أقصي جهة فيه في لمح البصر، ولكنه غفل عن شيء مهم جدًا وهي أن تلك القوانين والحقائق التي قامت عليها كافة اختراعاته وإبداعاته لها منظم جعل منها مناخًا مهيئ ومعد ليكون عالمًا لمخلوقه العاقل ( الإنسان )،

ومن هنا تعامل أغلب علماء الغرب برؤية ناقصة لواقع الوجود ولوجه واحد منه وهو الوجهة المادي (الطبيعيات) وما يشمله من علومه، فحاول أن يصنع الكثير من النظم الاجتماعية والقوانين الوضعية لتستقيم بها مجتمعاته، فشاهدنا الاشتراكية والرأسمالية فكرياً.

الدائرة المفرغة

ويدوي صدي تأثيرهم على العقول حتي يومنا هذا في مسعي دائم لتكوين رؤية واقعية توفر مناخ اجتماعي سليم وصحي لتنهض به المجتمعات والإنسانية جمعاء، ولكن رغم اشتراكهم في فكرة أن السعادة هي الغاية التي يسعي كلاهما أن يوفرها لمعتقديهم، هي أمر يشمل جانب نفسي وعقلي لا يقتصر على ذلك الجسد فقط وأن الإحاطة بحقوق واحتياجات كافة البشر أمر متناقض.

فكيف لبشر يضع نظام مجتمعي يظن أنه على قدرة بأن يحيط بكافة الحقوق والاحتياجات والإمكانات البشرية؟ كيف يحدث ذلك ومن لديه القدرة علي ذلك؟ هل هو إنسان من نفس بني الجنس؟!

فنعود لأنه لا أحد أعلم بالمصنوع من الصانع وأنه وحده هو من يملك الإحاطة بحاجات وحقوق كل مخلوقاته بمن فيهم الإنسان ، ويعلم النظام الذي يصلح كل إنسان به .

فنجد أن تلك المجتمعات بعد أن تطورت على الصعيد المادي، بأحدث الوسائل التكنولوجية- و التي لم تشهد من قبل- جعلت من الإنسان ترس في آلة يستيقظ ليقوم بوظيفة ما ليجني المال الذي من خلاله يستطيع أن يشتري ويستهلك أي منتج بالأخص تلك الماركات العالمية على أن هذا الاستهلاك يمنحه القيمة أو يضعه في مكانة مرموقة في المجتمع،

فما يلبث هذا الإنسان المسكين سوي فترة قصيرة حتي تنتهي لذته من ذلك الاستهلاك ويعتاد ما هو جديد فحين يألفه يذهب ذلك البريق وتعود النظرة والحاجة إلي استهلاك منتج آخر ويستمر في تلك الدائرة المفرغة والتي لا معني لها،

فمن اكتشف عبثية تلك الدائرة هرع إلي الانتحار للتخلص من تلك الوحشة النفسية التي يقاسيها أو شكك ونظر بعين تحقق لحقيقة هذا الفكر الذي لا معني له، والذي جمل ظاهر المجتمعات بما فيها الإنسان ولكنه جعلهم فارغين من الداخل من أي قيمة فإلي أي شيء يمضي عمر هذا المسكين؟ هل إلي أن يستحوذ على كامل ثروات العالم؟!

وبعد ذلك لن يسد تلك الجشاعة شيء مهما كثر. فكل لذة مألوفة أو معتادة ستفقد معناها ويجد نفسه أمام حقيقة واقعه الصادمة ألا وهي أنه لم يحصل على أي قيمة فعلية لنفسه.

وهنا صدم الواقع هؤلاء بحقيقته حين ظهر فساد الطبيعة جراء التعامل اللاإنساني معها، وصدم الإنسان بحقيقة أنه ليس فقط جسد يستهلك فقط وكأنه سيارة تمتلئ بالوقود لتسير ولكن وجد نفسه مفرغ من القيمة والمعني؛ فبات يحاول ان يراعي حيوانات أليفة وينادي بحقوق تلك الحيوانات لسد بعض تلك الوحشة النفسية التي يعاني منها، وهو أصلاً يمارس فكر عنصري ضد من هم من جنسه.

يسعي لأن يملك من المادة ما يفوق بكثير احتياجاته حتي وإن غزي بلاد وأباد شعوبها، واستولي على أراضيهم أو حارب أخري لنيل نصيب من ثروات أراضيها ، فصار يتآكل لا لشيء إنما لأنه لا غاية حقيقة سليمة يسعي لها.

ولكننا للأسف أمام فكر شديد الخطورة كالسرطان في الجسد إلا أنه سرطان يصيب أهم جزء فيه ألا وهو العقل؛ فيصيبه بتعظيم الأنانية ويجعله في صراع حيواني شهوي؛ يدهس فيه القوي الضعيف وهذا لا يليق بالمخلوق الإلهي المُقدس ( الإنسان ) فإن إنسانيته إلهية طاهرة تحمل في حقيقتها صفات من الخالق الذي قدَّر له رحلة تكاملية في مكان فيه من الثروات ما يكفي كافة الناس، بل وما يفيض لكل من هو آتٍ من الأجيال القادمة ،

فقدر له ذلك وأرسل له من المرسلين والمصلحين من يأخذون بأيديهم، وأقرَّ لهم قوانين إلهية تستقيم بها النفوس قبل أن تستقيم بها المجتمعات؛ بحيث تعج بالقيم والأخلاق النبيلة قبل أن تتطور الوسائل في أيديهم.

فحتمًا؛ عالمُ صاحب أخلاق سيقضي عمره بعلمه نافعًا للبشرية ، وإن كان عالمًا صاحب مبادئ مادية نفعية؛ فقد يستميت لصنع سلاح فتاك يجني من ورائه المال أو مصل لفيروس، ولكنه لا يمنحه إلا لمن يدفع أكثر أو مُفكّر صالح يغرس في شباب مجتمعه الأفكار السليمة والقيم والأخلاق النبيلة؛ لتستقيم حياتهم ويتطور مجتمعهم بهم بعكس ذلك المفكر الذي لا قيمة أخلاقية لديه.

فقط يستميت في دافعه عن فكر فاسد ويغرس من الأفكار ما يجعل من النشء أعداءًا لمجتمعهم نفسه، وهل يستوي الذي يفيض خيرًا بالذي يفيض شرًا ؟! وهنا يصدم واقعنا وحقيقتنا أصحاب الرؤية الخاطئة للإنسان والواقع والخالق.

وهذا لا يليق بإنسانيتنا، لا يليق أن نتسافل من سمو مقدسة إلي أدني من حياة البهيمية.

اقرأ أيضاً:

الدائرة المفرغة للعبودية الحديثة

أيهما أهم في الحياة الأشياء المادية أم الأفكار العقلية؟

الهيمنة المادية

محمد سيد

عضو بفريق بالعقل نبدأ أسيوط