أسرة وطفل - مقالاتمقالات

يظل ما تقوله البيئة المحيطة هو الأهم .. الجزء الثاني

هناك حكاية قديمة تقول: إن رجلًا خرج مع ولده ابن العاشرة في رحلة إلى إحدى القرى المجاورة، راكبَين على حمار، وحين دخلا القرية كان الأب راكبًا والابن ماشيًا، فقال بعض أهل القرية: “هذا الرجل ليس عنده رحمة بالصغير، وكان عليه أن يحمله معه”.

مضيا إلى قرية ثانية، وقد ركبا معًا الحمار، فقال بعض أهل القرية: “مسكين هذا الحمار، فقد حُمِّل فوق طاقته، وكان المفروض أن يركب أحدهما، ويمشي الآخر”.

مضيا إلى القرية الثالثة، والابن راكب والأب ماش على قدميه، فقال بعض أهل القرية: “هذا الفتى لا يحترم أباه، إذ كيف يسمح لنفسه أن يركب وأبوه ماش؟”.

أخيرًا مضيا نحو القرية الرابعة راجلين وقد قادا الحمار خلفهما، فقال أحد أهل القرية: “هذان الشخصان غبيان! كيف يكون معهما حمار ولا يستخدمانه للركوب؟”.

هنا يمكن التساؤل: ما الذي بقي على الرجل وابنه أن يفعلاه؟ أظن أن الإجابة ستكون كالتالي: بقي عليهما أن يحملا الحمار –إن استطاعا– ويمضيا به، وحينئذ سوف يُتهمان بالجنون. خلاصة هذه الطرفة تكمن في حكمة قديمة تقول: “رضا الناس غاية لا تدرك”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تأثير البيئة على السلوك

ربما قد سمع بعضكم بهذه الطرفة، وضحك كثيرًا عند سماعها، وهي بالفعل طرفة رمزية تشير في السياق الذي نسعى لتوضيحه إلى مدى تأثير البيئة المحيطة بالإنسان على تشكيل مشاعره وميوله وسلوكه، وهذا ما لاحظناه بوضوح في هذه الطرفة، فرأي الناس جعل الأب وابنه يغيران من أوضاعهما في تعاملهما مع الحمار الذي يقودانه معهما.

رغم أن رأي أصحاب القرى التي مرّا بها لم يكن ملزمًا لهما، وكان بإمكانهما عدم إعطاء تعليقات أهل القرى أي اعتبار، لكن هكذا هي طبيعة البيئة المحيطة في تأثيرها على من يعيشون في إطارها، فهي لا تلزمهم تنفيذ سلوكيات معينة بالقوة، ولكنها تتغلغل في لا شعورهم وتجعلهم أكثر استسلامًا لما يرتضيه مجتمعهم، وخاصة عندما تكون تلك السلوكيات عبارة عن عادات وتقاليد وأعراف دَرجَ عليها الكبير ونشأ عليها الصغير.

قليلون هم من يرفضون الرضوخ لتأثير البيئة المحيطة، ولكنهم يدفعون في مقابل ذلك كثيرًا، فالمجتمع لن يتسامح معهم، وربما نبذهم عندما يقترفون سلوكيات معينة أو يتمردون على سلوكيات أخرى مُجمعٌ عليها، وفي أحيان كثيرة قد يكون ما تواضع عليه المجتمع من سلوكيات سيئًا، ولكنهم يسيرون على رأي المثل القائل: “بين إخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب”.

تأثير البيئة الاجتماعية في التربية

تأثير البيئة الاجتماعية

هذا يقودنا إلى القول: إن من الواضح أن تأثر الناس بمجتمعاتهم أكبر من أن نعبر عنه بالكلمات، ويكفي للدلالة على عظم ذلك التأثير ما نلاحظه من أن أكثر من 99% ممن يولدون ويعيشون في مجتمع مسلم يكونون مسلمين، كما أن أكثر من 99% ممن يولدون ويعيشون في مجتمع بوذي يكونون بوذيين وهكذا، وهذا يضع المربين أمام تحدٍ كبير في إخراج من يربونهم من أسر التدين بالوراثة إلى رحاب الإيمان بقناعة ورغبة وحب.

في هذا السياق، يظن بعض المربين أنهم قادرون على الإمساك بعجلة قيادة من يربونهم، وهم في هذه الحالة واهمون، وهم كذلك غير مدركين لتأثير البيئة على من يربونهم، وربما تكون المؤثرات التي تؤثر على من يربونهم أكثر من تأثيرهم هم الآباء والأمهات والمعلمين، فوسائل الإعلام وجماعة الأصدقاء وغيرها من المؤسسات تلعب دورًا كبيرًا وتؤثر تأثيرًا مباشرًا وعميقًا على نفسية الصغار وسلوكياتهم، وعلى المربين إدراك ذلك وإلا فلا يلومون إلا أنفسهم، فقد تنافسهم مثل هذه المؤسسات وتستأثر بأبرز واجباتهم وهي توجيه وإرشاد من يربونهم.

الخلاف بين الوالدين مضيعة للأبناء

في بعض الأحيان يكون الأبوان هما السبب في تعكير البيئة التربوية وإيجاد التوتر والانقسام داخل الأسرة، وذلك بسبب “الحرب الباردة” التي يخوضها كل منهما ضد الآخر، والتي قد تستمر ثلاثين أو أربعين سنة، إنها مثل حرب داحس والغبراء، لكن من غير سيوف ولا دماء، لكنها تخلف جروحًا وكدمات نفسية وشعورية وعقلية بالغة الخطورة –وفق تعبير الدكتور عبدالكريم بكار– وهذا يفرض على الأبوين أدبيًا عدم جواز استخدام الأطفال أدوات للصراع بينهما، حتى لا تنقسم الأسرة إلى حلفين، أحدهما “حلف الناتو” ويمثله الأب ومن انضم إليه، و”حلف وارسو” الذي تمثله الأم ومن انضم إليها.

من الأخطاء الشائعة في توجيه بعض الأباء والأمهات لأبنائهم، أن الصغير قد يأتي إلى أبيه، فيقول له: “لقد قالت لي أمي كذا، أو أمرتني بكذا”، فيرد عليه الأب غاضبًا ومحذرًا: “لا تصدق أمك! كن رجلًا ولا تصدق كلام النساء!”، وقد يذهب نفس هذا الصغير إلى أمه ويقول لها: “أبي قال لي كذا، أو أمرني بكذا”، فترد عليه الأم بلا مبالاة: “لا تصدق كلام أبوك، قد كذب علينا مرات كثيرة!”.

عندها يقف هذا الصغير حائرًا، فأبوه يحذره من تصديق أمه، وأمه تستهين بقول أبيه وتوحي له بعدم تصديقه، وإذا لم يصدِّق هذا الصغير أباه وأمه، فلكم أن تتخيلوا من سيصدق؟ إن من غفلتنا الشديدة أننا أحيانًا نتفوه بكلمات خطيرة، ولا نلقي لذلك بالًا، ولكننا نكتشف في وقت متأخر أنها قد حفرت عميقًا في نفسية أبنائنا، وعندها نعض على أصابع الندم، ولكن بعد فوات الأوان.

تأثير توقعات الوالدين على تربية الأبناء

تأثير البيئة الاجتماعيةلقد أظهرت بعض البحوث والدراسات أن هناك قيمة كبرى “لتوقعات الكبار” لما يمكن أن يكون عليه الصغار في المستقبل، فإذا كانت تلك التوقعات متفائلة ومستبشرة، فإنها تدفع الأطفال في اتجاه التفكير والتعلم والعمل، كما أنها قد تدفعهم في اتجاه اليأس والخمول إذا كانت شحيحة ومتشائمة.

بعبارة أخرى، ألسنتنا هي التي تصنع شخصيات ومستقبل من نربيهم، فمن وُفِّق لجعل لسانه بانيًا ومعزِّزًا فسيثمر مسعاه شخصيات سوية ناجحة، ومن ترك للسانه العنان توبيخًا وذمًا وتعييرًا فلينتظر نتائج ما زرعه لسانه، شخصية ضعيفة مهزوزة عدوانية أنانية فاشلة، وهذه ثمار سيحصل عليها صاحب اللسان السليط لا محالة.

على المربي أن يكون على سجيته مع من يربيهم، فكونه مربيًا لا يعني أن يدّعي ما ليس فيه، وعليه أن يغض الطرف عن بعض أخطائهم (يدعمهم)، وحين يغضُّ المربي الطرف عن بعض أخطاء من يربيهم، فإنه يكسب تعاطفهم، ويترك في نفوسهم بعض المهابة له، كما أشار إلى ذلك الدكتور عبدالكريم بكار.

الاتصال الفعال بين الآباء والأبناء

لا يكفي أن نهتم بنوعية ما نقوله للطفل، بل لا بد من الاهتمام بتوقيته وكيفية قوله، فبعض الآباء والأمهات والمعلمين يوجهون النصائح ﻷبنائهم وتلاميذهم وهم غاضبون، فيكونون كمن يرسم خطًا في الرمل، أو كمن يقدم هدية بطريقة سيئة، كأن يرمي بها في وجه المُهداة إليه، وفي هذه الحال لا يمكن اعتبارها هدية من محب، بل هي لطمة من مبغض وإن كان مسماها هدية أو نصيحة.

إن التربية عملية تفاعلية، ولا يكفي أن يكون المربي فاضلًا، بل لا بد من إزالة العوائق التي تحول بينه وبين من يربيهم، والتربية ليست عملية تعليمية وحسب، وإنما هي عملية تفاعلية، كما سبق وأشرنا، فلننظر مع مكونات أي بيئة يتفاعل الأبناء، وعلينا عندما يخطئ صغارنا أن نتعامل مع أخطاء هؤلاء الصغار على أنها زلات من أشخاص طيبين، نريدهم أن يكونوا امتدادًا لنا بعد أن نغادر هذه الدنيا الفانية.

وللحديث بقية.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

قضايا الساعة الجديرة بالإذاعة

دور البيئة في عملية التربية وصناعة الإنسان

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. يحيى أحمد المرهبي

أستاذ أصول التربية المساعد كلية التربية والعلوم التطبيقية والآداب – جامعة عمران. الجمهورية اليمنية.