قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع والأربعون

المدرسة المشَّائية: (47) إخوان الصفا: وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [3] تقسيم العلوم والرسائل

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 48) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [2] مُنجزات العلوم والتعاون الفلسفي بين البشر.

ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

رسائل إخوان الصفا: دائرة معارف كبرى لعصرهم

أطلق برنارد لويس على جماعة إخوان الصفا وصفَ “الإنسيكلوبيديين/الموسوعيين”، فلكي يحقق من يريد الانضمام للرؤية الكونية الفلسفية لإخوان الصفا، عليه أن يكون موسوعيًا يحصلَّ العلوم المعروفة كلَها حتى عصرهم، فهذا شرط كماله وبلوغه سعادته. وهذه العلوم موضحة في رسائلهم لأخيهم القارئ. ورسائلهم أول دائرة معرفة جماعية كبرى في العالم. تضمُ العلوم والفنون جميعَها: من رياضيات وفلك وهندسة وموسيقى وجغرافية وأنثروبولوجيا وإثنولوجيا وفلسفة ومنطق ولغة وعلوم طبيعية من حيوان ونبات وجماد وعلوم نفس واجتماع ودين وسياسة وأخلاق وتدبير مدن وعلم التنجيم والسحر والعزائم والعين وعلوم الكائنات الروحية من ملائكة وجن وشياطين والعلوم الشرعية والناموسية والإلهية.

تحتاج هذه العلوم والمعارف كلها إلى تصنيفٍ لردها إلى محورٍ واحدٍ تتفرع عنه، وإلى غاية موحدة تلتقي عندها، فحاول الإخوان تصنيف العلوم وتقسيمها.

تصنيف العلوم الفلسفية أصنافًا أربعة

وتقسيم الرسائل اثنتين وخمسين رسالة ورسالة جامعة

الفلسفة –عند إخوان الصفا– “أوّلها محبةُ العلوم، وأوسطُها معرفةُ حقائق الموجودات، وفق الطاقة الإنسانية، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم”. فالفلسفة علم نظري وعمل تطبيقي. والعلوم الفلسفية أربعة أنواع: الرياضيات، والمنطقيات، والطبيعيات، والإلهيات.

وقد صنف إخوان الصفا العلومَ المؤسسةَ لرؤيتهم الكونية (الله–الإنسان–العالم) أربعةَ أصناف: “اعلم بأن العلوم التي كان الفلاسفة يخرجون أولادهم بها، ويروضون بها تلامذتهم، أربعة أجناس، أولها: الرياضيات، والثاني: العلوم المنطقيات، والثالث: العلوم الطبيعيات، والرابع: العلوم الإلهيات، وقد عملنا في كل نوع من هذه العلوم رسالة شبه المدخل والمقدمات”.

القسم الأول: العلوم الرياضية “التعليمية”

أول ما يُبتدأُ به، في العلوم الفلسفية، الرياضياتُ وهي أربعة أنواع: أولها: الأرثماطيقي (علم معرفة خواص العدد وما يطبقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس ونيقُوماخُس)، والثاني: الجُومَطْرِيا (علم الهندسة بالبراهين التي ذكرت في كتاب أُقْليدُس)، والثالث: الأسْطرُنُوميا (علم النجوم بالبراهين التي ذكرت في كتاب المَجْسِطي لبطليموس)، والرابع: الموسيقى (علم تأليف الأصوات وأصول الألحان).

علوم المنطق ضمن العلوم الرياضية: وقد ضم إخوان الصفا علوم المنطق الأرسطي إلى القسم الرياضي، إذ اعتبروه جزءًا من العلوم الفلسفية، وليس مدخلًا إليها، كما هو الحال عند أرسطو والفارابي وابن سينا. ويحتل المنطق خمسَ رسائل من أربع عشرة رسالة (من الرسالة العاشرة إلى الرابعة عشرة). ومن الصنائع المنطقية الخمسة (البرهان والجدل والخطابة والسفسطة والشعر) يحتفظ الإخوان بمنطق اليقين أي: البرهان. ويحذفون الصناعات الأربع الأخرى التي تمثل منطق الظن: الجدل والخطابة والسفسطة والشعر. فالفلسفة عند إخوان الصفا “أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة”. والمنطق “أشرف الأدوات” إلى الفلسفة، فالمنطق البرهاني ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. وحَدُّ الفلسفةِ أنها “التشبه بالإله وفق الطاقة الإنسانية”. والحقيقة واحدة لكنها ناطقة بلسانين: النبوة والفلسفة. وبالطبع شاب الإخوان ما شاب الفلاسفة كلهم –قديمًا وحديثًا– من بعض النزعات اللا عقلية، بل الخرافية الأسطورية.

“الرسائل الرياضية، أربع عشرة رسالة: [1] العدد [2] الهندسة (جومطريا) [3] النجوم (الأسطرونوميا) [4] الموسيقى [5] الجغرافيا [6] النسب العددية والهندسية [7] الصنائع العلمية النظرية [8] الصنائع العملية والمهنية [9] الأخلاق [10] إيساغوجي (المدخل إلى المنطق) [11] قاطيغورياس (المقولات العشر) [12] باريمانياس (العبارة) [13] أنولوطيقا الأولى (التحليلات الأولى: القياس) [14] أونولوطيقا الثانية (التحليلات الثانية: البرهان).

القسم الثاني: العلوم الجسمانية الطبيعية

“والرسائل الجسمانية الطبيعية، وهي سبع عشرة رسالة: [1] في بيان الهيولى والصورة والحركة والزمان والمكان وما فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض [2] السماء والعالم في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق [3] في بيان الكون والفساد [4] الآثار العلوية [5] كيفية تكوين المعادن [6] في ماهية الطبيعة [7] في أجناس النبات [8] في أصناف الحيوان [9] في تركيب الجسد [10] في الحاس والمحسوس [11] في مسقط النطفة [12] في قول الحكماء “إن الإنسان عالم صغير” [13] في كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية والأجسام الطبيعية [14] في بيان طاقة الإنسان في المعارف وإلى أي حد هو ومبلغة من العلوم وإلى أي غايةٍ ينتهي وأي شرفٍ يرتقي [15] ماهية الموت والحياة [16] ماهية اللذات والآلام الجسمانية والروحانية [17] في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات، وكيف مبادئ المذاهب والديانات والآراء والاعتقادات”.

القسم الثالث: العلوم النفسانية العقلية

“وتشتمل على عشر رسائل: [1] في المبادئ العقلية على رأي الفيثاغوريين [2] في المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا [3] في معنى قول الحكماء: “إن العالم إنسان كبير” [4] في العقل والمعقول [5] في الأكوار والأدوار واختلاف القرون والأعصار والزمان والدهور [6] في ماهية العشق [7] في البعث والقيامة [8] في كمية أجناس الحركات [9] في العلل والمعلولات [10] في الحدود والرسوم”.

القسم الرابع: العلوم الناموسية الإلهية

“وهي تشتمل على إحدى عشرة رسالة: [1] في الآراء والديانات [2] في ماهية الطريق إلى الله عز وجل [3] في بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين [4] في كيفية عشرة إخوان الصفا وخلان الوفا [5] في ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المُحقيّن [6] في ماهية الناموس الإلهي وشرائط النبوة وكمية خصالهم ومذاهب الربانيين والإلهيين [7] في كيفية الدعوة إلى الله عز وجل [8] في كيفية أحوال الروحانيين [9] في كمية أنواع السياسات [10] في كيفية نضد العالم بأسره [11] ماهية السحر والعزائم والعين”.

وَحْدَةُ الأقسام الأربعة

هكذا قسم إخوان الصفا –تبعًا لتقسيمهم العلوم أربعة أقسام– رسائلهم اثنين وخمسين رسالة ورسالة جامعة تعد النتيجة النهائية لتلك الرسائل، التي تعد بدورها بمنزلة المقدمات التي بنيت عليها الرسالة الثالثة والخمسون، التي أطلقوا عليها اسم: “الرسالة الجامعة، المشتملة على حقائق الرسائل بأسرها”. ولا تنفصل هذه الأقسام الأربعة بعضها عن بعض بل تتصل في وَحْدَةٍ فلسفيةٍ جامعة، يَحيلُ بعضُها إلى بعض ويُبنى بعضُها على بعض، أما الرسالة الرابعة والخمسون المسماة “جامعة الجامعة” فمشكوك نسبتها إليهم، والمرجح أنها ليست لهم.

محصلة القسمة الرباعية: الرؤية الكونية للوجود: العالم – الإنسان – الله

“هذه فِهْرِسْت رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل وأبناء الحمد، وهي اثنتان وخمسون رسالة، ورسالة، في تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق”. وهذه القسمة الرباعية تنحل إلى ثلاثة هي أركان الرؤية الفلسفية إلى الوجود: العالم – الإنسان – الله.

الغرض من العلوم: التحقق بالميتافيزيقا

يقول إخوان الصفا لأخيهم القارئ: “واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا برُوحٍ منه، بأن غرضَ الفلاسفة الحكماء من النظر في العلوم الرياضية، وتخريجهم تلاميذهم بها، إنما هو السلوكُ والتطرقُ منها إلى علوم الطبيعيات، وأما غرضهم من النظر في الطبيعيات فهو الصعودُ منها والترقي إلى العلوم الإلهية الذي هو أقصى غرض الحكماء، والنهاية التي إليها يُرْتَقى بالمعارف الحقيقية”.

وستقتصر دردشاتُنا المقبلةُ عن إخوان الصفا على الرسائل التي تتضمن جانب العلوم الرياضية والفلسفية، وبخاصة ما يتعلق بالجانب الميتافيزيقي فيها.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [4]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي).

اقرأ أيضاً:

الجزء الخامس والأربعون من المقال

الجزء السادس والأربعون من المقال

الجزء السابع والأربعون من المقال

الجزء الثامن والأربعون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج