العلاقة السببية بين الإمكان والضرورة .. الجزء الأول
«من أنت أيتها الطبيعة. فمنذ خمسين سنة، وأنا أبحث عنك، ولم أعثر عليك بعد! هل أنت فعَّالة على الدوام؟ هل أنت سلبية؟ هل قامت عناصرك بتنظيم نفسها؟ هل لك عقلٌ يُوجه أفعالك؟».
هكذا تساءل «فولتير» (Voltaire 1694-1778) سنة 1764 في قاموسه الفلسفي، معبرًا عن حالة الاضطراب الفكري التي أصابت الإنسان إزاء الطبيعة وعملياتها. ورغم ما شهده العلم –عبر عقودٍ طويلة– من تطورات جريئة، تُوجت بظهور نظريتي الكوانتم والنسبية، فإن هذا التساؤل ما زال قائمًا. حقًا لقد استجابت الطبيعة لنداء العقل، فانتظم عالمها لدى الإنسان وفقًا لقوانين ومعادلات رياضية، ولكن مهلًا: ألم تنته الرياضيات في أواخر القرن التاسع عشر إلى قرار إبستمولوجي يقضي بوقف الزج بمفاهيمها إلى عالم الحواس، والارتقاء بها إلى عالم التفكير العقلي المجرد دون أدنى اهتمام بما تسجله الخبرة الحسية؟ بل ألم تصل فيزياء القرن العشرين إلى قناعةٍ بالإجراء القضائي الشائع: يبقى الوضع على ما هو عليه، فتركتنا نتنازع حول مصطلحات ونقائضها، كالاتصال والانفصال، والحتمية واللا حتمية، والآلية والغائية؟
يبدو إذًا أننا لم نتقدم كثيرًا نحو فهمٍ موحدٍ للطبيعة، تلك الأمنية التي طالما راودت «آينشتين»، وداعبت خيال «فيرنر هايزنبرج»، كلٌ بمنظوره العلمي ورؤاه الفلسفية. وما دام الأمر كذلك، فقد أصبح من الضروري استدعاء الفلسفة، لتدلي بدلوها في مشكلاتٍ طالما أُثيرت تحت لوائها، لكنها الآن –أي الفلسفة– تحمل أثقالًا علمية هائلة، عليها تحليلها وإعادة بنائها، أو بالأحرى عليها توظيفها فلسفيًا.
نخصص هذا المقال لواحدة من تلك المشكلات، بل لعلها أكثرها إثارة وصعوبة، ألا وهي مشكلة السببية. ولا نهدف من ذلك إلى تقديم حلٍ لها، فهي كما خبرناها من المشكلات المتلونة دائمًا بألوان باحثيها، بحيث يصعب انتظار حلٍ لها يوصي بنفسه في كل الأزمنة وفي كل الحضارات، وإنما نهدف إلى الإجابة عن عددٍ من التساؤلات، أهمها: هل تنطوي العلاقة السببية على ترابطٍ ضروري بين الأسباب ونتائجها، بحيث يؤدي ظهور السبب إلى حتمية ظهور النتيجة عبر سلسلة من الحوادث المتصلة زمكانيًا؟ وإذا كانت السببية تستلزم اتصال الحوادث، فهل يعني ذلك أنها مقولة عقلية تسعى إلى التحقق التجريبي، أم أنها مقولة تجريبية تستند إلى إدراكات الحواس؟ وماذا عن القانون السببي؟ هل يمثل الصورة الوحيدة للقانون العلمي، أم أنه لا يعدو أن يكون شكلًا من أشكاله؟ وهل استطاعت القوانين الإحصائية تنحيته عن عرش العلم؟
قبل أن نبحث عن إجابة لتلك التساؤلات، ينبغي أن نُبرر استخدامنا لمصطلح «السببية»، وليس «العلية» ترجمة لكلمة (Causality)، فالسبب في اللغة هو «الحبل»، أو «ما يُتوصل به إلى غيره عبر وسيط أو وسائط»، وهذا هو المعنى المفهوم من آي الذكر الحكيم: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ» (البقرة 166)، و«مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ» (الحج: 15).
أما «العلة» فهي «ما يترتب عليه أمرٌ آخر بالاستقلال، أو دون وسيط بينهما». وعلى هذا، وما دام ثمة عدم يقينٍ فيزيائي بشأن إمكانية التأثير عن بُعد، وثمة تبرير منطقي لاتصال الحوادث والتأثيرات عبر وسائط مُفسرة، فمن الأجدر إذًا القول بالسببية وليس بالعلية.
أولًا: تحليل أرسطو للسببية
جرت العادة على أن يبدأ أي بحثٍ علمي في السببية بالإشارة إلى «أرسطو»، ليس لأنه أول من قال بها، وإنما لأنه أول من قام بتوظيفها في خدمة المعرفة العلمية، وذلك حين جعل مهمة العالِم البحثَ عن أسباب الظواهر، وفهم ما يعتريها من تغيرات. هذا فضلًا عن أن قسمته الرباعية للأسباب، أو للإجابات المفترضة إذا ما طُرح التساؤل: لماذا (Why)؟ أو لأي سبب (Because of what)؟ تُمثل نموذجًا للتفسير الكامل لأية ظاهرة جزئية تواجه العالِم أو الفيلسوف، وهو ما حدا بمؤرخي الفلسفة إلى تسمية المنهج الأرسطي بمذهب الأسباب الأربعة.
السبب عند «أرسطو» إما أن يكون مادة أو صورة أو حركة أو غاية، كأن نقول مثلًا أن للتمثال سببًا ماديًا هو مادته التي صُنع منها، وسببًا صوريًا هو فكرته الموجودة في ذهن المثّال، وسببًا مُحركًا أو فاعلًا هو المثّال الصانع له، وأخيرًا سببًا غائيًا هو الهدف الذي من أجله أُخرج التمثال من القوة إلى الفعل. ورغم أن هذه الأسباب تعمل مُجتمعة في تفسير الشيء أو الظاهرة، إلا أن العلم بها درجات، وأسمى درجات العلم بالسبب يُمثل أسمى مراتب المعرفة. ولما كانت الميتافيزيقا أسمى العلوم، إذ يصل صاحبها إلى العلم بالمُحرك الأول اللا مُتحرك، ومن ثم معرفة الغاية التي تجري إليها عمليات الطبيعة، فالسببية إذن مبحث ميتافيزيقي يصلح معيارًا للتمييز بين مراتب المعرفة المختلفة.
فإذا تساءلنا: هل تنطوي العلاقة السببية على ترابط ضروري بين الأسباب ونتائجها؟ لجاءنا جواب «أرسطو» بالإيجاب. يتضح ذلك من خلال مبحثين هامين في مذهبه، أولهما المنطق، لا سيما نظريته في القياس، والثاني بحثه في الطبيعة، فلو نظرنا إلى منطق «أرسطو»، لوجدنا أنه بدوره مبحث ميتافيزيقي، ينقسم الوجود فيه إلى عشر حلقات منطقية كبرى، هي «المقولات»، كالجوهر والكم والكيف، إلخ. هذه المقولات تحصر كل ما يمتلئ به العالم من موجودات عن طريق معانيها أو صورها (فالجوهر يحصر كل الأنواع أو الصفات النوعية، والكم كل الأبعاد والمقادير، والكيف كل الصفات… وهكذا). وبهذا الحصر يستطيع الذهن أن يتبين سعة كل حلقة أو مقولة، ومن ثم إمكان اندراج بعضها تحت بعض، أو تداخل بعضها في بعض، ليصبح الحكم في النهاية مُعبرًا عن اندراج الموضوع في محمول، أو تداخل حلقة ضيقة هي الموضوع في أخرى أوسع هي المحمول، ويحدث بذلك إرجاعٌ لكثرة الموجودات إلى وحدات أعلى فأعلى حتى الانتهاء إلى فكرة الوجود وهي أعم الأفكار.
يبرز «أرسطو» فكرة الضرورة في تعريفه للقياس (Syllogism)، إذ يقول: «هو قولٌ متى قُررت فيه أشياء معينة نتج عنها بالضرورة شيء آخر مختلف عما سبق تقريره». ومن الواضح أن الضرورة التي يعنيها «أرسطو» هنا إنما هي ضرورة منطقية، تُعبر عن رؤيته للعالم كلًا متناسقًا ومعقولًا يتسلسل من الوحدة إلى الكثرة، مما يذكرنا بالجدل النازل عند «أفلاطون»، وإن كان القياس الأرسطي مختلفًا عنه في نقطة جوهرية، ألا وهي «الحد الأوسط» الذي يسمح بتداخل حلقة في أخرى، ليعطي «سببًا» لإنتاج نتيجة القياس.
رغم منطقية الضرورة عند «أرسطو»، فإن ذلك لا يعني آليتها، بل يعني بالأحرى غائيتها، وهو ما يبدو جليًا في دراسته للطبيعة التي تُعد تطبيقًا دقيقًا لنظريته المنطقية في مراتب الموجودات، بدءًا من المادة الأولى التي لا صورة لها، وحتى المحرك الأول اللا متحرك، وهو صورة خالصة بلا مادة، فإذا كانت الطبيعة منتظمة، وحركاتها متصلة في الزمان والمكان المتصلين، فمن الطبيعي أن يكون هناك ترابط ضروري بين الأسباب ونتائجها، لا على نحو آلي ندرك فقط عبره كيفية حدوث الشيء، وإنما على نحو غائي يحملنا إلى الهدف الذي يسعى إليه الشيء. يقول «أرسطو»: «لما كان النظام يسود الطبيعة كلها، فإنها لا تفعل شيئًا بالصدفة، وإنما توجه كل شيء نحو هدف محدد، وهي حين تستبعد الصدفة (والاتفاق) تحرص على تحقيق الهدف (أو الغاية) بقدرٍ يفوق كل فنٍ بشري».
هكذا يولي «أرسطو» عناية خاصة لفكرة الغائية، فيجعل منها طابعًا عامًا لمذهبه. ولقد هوجمت فلسفته، ولا تزال تُهاجم، بسب هذه الفكرة، لا سيما من العلم الحديث، وبعض مُناصري النظرة المادية في عالِمنا المعاصر، والحُجة في ذلك أن القول بالغائية يعوق البحث العلمي من جهتين: فهو أولًا يُخل بالترتيب الزمني لعلاقة الأسباب بنتائجها، فإذا سُئلنا مثلًا: لماذا يمشي فلان؟ قلنا: لكي يكون صحيحًا، فكيف يمكن إذن للصحة، وهي سبب غائي، أن تأتي لاحقة على المشي الذي يُمثل النتيجة؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لسنا بحاجة في العلم إلى معرفة الغاية التي تهدف إليها عمليات الطبيعة، وإنما يكفينا دراسة الأسباب الفاعلة أو المحركة وصياغتها في صورة رياضية تمثل قانونًا عامًا يحتمل التعديل، ففي البحوث الطبية مثلًا لا يهمنا أن نعرف أن غاية الأُذن هي سماع الأصوات، وإنما يهمنا معرفة الكيفية التي ينتقل بها الصوت من مصدره إلى الأذن، وكيفية تأثيره عليها ليُسبب الإحساس بالسمع، وهكذا يمكننا صياغة قانون عام يصف الظواهر السمعية.
مع ذلك نستطيع الدفاع عن «أرسطو» بعين آرائه، فنقول إن كونًا تحكُمه ضرورة غائية أكثر قبولًا لدى العقل من كونٍ تحكمه ضرورة عمياء لا تفسير لها، هذا بالإضافة إلى أن القول بالغائية لا يخدم فقط مطالب العقل المجرد، وإنما يُفسر وقائع تجريبية تدركها الحواس، لعل أهمها انتظام الطبيعة وتوازنها ووفرة أنساقها الجمالية. وليس غريبًا أن يعود العلم المعاصر إلى القول بالغائية، فقد أدرك رواده –كما أدرك «أرسطو»– أن بالكون عنصرًا آخر لا مادي، هو المبدأ الأول لحركته ونظامه وتدبيره، وبه نستطيع أن نمنح مفهوم الضرورة السببية تفسيرًا ملائمًا.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
البيضة ولا الفرخة، أيهما أسبق في الوجود؟!
مفهوم المغالطات المنطقية، أنواعها، كيف تكشفها؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا