مقالاتاقتراحات الموقع

العلاج بالفلسفة

كثيرا ما يسألني السائلون عن العلاج بالفلسفة في نبرة تعجب وربما بنبرة سخرية وعدم تصديق! هل ثمة ما تقدمه الفلسفة والتفلسف لإنسان العصر الحالي الذي تحاصره المشكلات والجوائح من كل جانب، ويعاني الكثير من صور الضجر والكآبة رغم كل ما يستمتع به من تقنيات تملأ عليه وقته، ورغم كل صور التقدم التي مكنته إلى حد ما من أن يعيش عصر الرفاه والإشباع المادي؟!

والحقيقة أن هذه التساؤلات الساخرة قد ازدادت مع انتشار هذا الفيروس اللعين «كوفيد 19» الذي أجبر البشر -كل البشر- في كافة أنحاء العالم على العزلة والالتزام الشديد بإجراءات جعلتهم يزدادون كآبة وخوفا، فالفيروس الخفي سريع الانتشار ولا يرحم فهو سرعان ما يفتك بفريسته ويقضي عليها مستغلا أي تهاون أو استهتار!!

ومع كل ذلك ولكل السائلين أقول إن العلاج بالفلسفة ربما يكون أشد نجاعة في مثل هذه الظروف التي يواجه فيها الفرد المنعزل المعزول أعراضا مثل هذه المخاوف المقلقة، ربما لأنها تتعلق بمجهول لم يستطع الإنسان بكل تقدمه وجبروته العلمي أن يتعرف على هويته الحقيقية بعد!

تغيير الأفكار هو البداية

إن فلسفة كل هذه المخاوف والتخلص منها يكمن في أن ينظر الإنسان إلى هذه الجائحة وأمثالها مما يخفيه القدر على المستوى الفردي والجمعي نظرة أكثر شمولا ورحابة، وأن يحاول تغيير نمط تفكيره التشاؤمي هذا تجاه أي من الظواهر المقلقة والأحداث المؤلمة.

لقد عاش البشر في الأزمان السابقة الكثير من الأزمات والجوائح وواجهوها بالصبر عليها وتغلبوا عليها في النهاية بسلاحي التأمل والعلم. وكم كان فلاسفة الرواق في العصر الروماني رائدين ومؤسسين لأهمية التأمل العقلي والنظرة الشمولية والعلاج بالفلسفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

انظر إلى أبكتيتوس أحد أعلامهم (توفى 135م) وهو يقول: “إن العالم الذي ندركه يبدو أو يظهر لنا وفق أفكارنا ووفقا لما نتعرف عليه بوجه عام”، إن هذه الجملة البسيطة تحمل جوهر ما ندعوه اليوم العلاج بالفلسفة، فإذا ما أراد الإنسان أن يغير حياته ويحولها من حال إلى حال فما عليه إلا أن يغير أفكاره ونظرته إلى هذه الحياة، ما عليه إلا أن يوسع من عقله وفكره فلا يقف عند النظر في الجوانب السلبية في أي ظاهرة أو أي مشكلة يواجهها،

إذ أن أي ظاهرة من هذه الظواهر لها جوانبها الإيجابية بقدر بل ربما أكثر من جوانبها السلبية، وفي هذا الاعتقاد البدهي تكمن إمكانية إعادة صياغة التفكير في حل أي مشكلة يواجهها الإنسان حيث سيعيد صياغتها والنظر إليها من منظور أكثر شمولا، ليكتشف جوانب إيجابية ينفذ منها إلى شعور أكثر تفاؤلا وأكثر إيجابية، إذ أنه لا مشكلة بلا حل.

لا مشكلة بلا حل

وعن إعادة صياغة تفكيرنا إزاء أي مشكلة يمكننا أن نفكر فيها على النحو التالي الذي رسمه لنا إيدموند ج. بورد وأمثاله من المعالجين بالفلسفة: “علينا التسليم بأن المشكلة بكل تداعياتها ستأخذ وقتها وتمضي، كل ما هنالك أن علينا أن نأخذ وقتنا لحلها والتغلب عليها”، إذ أنه وكما قلنا سابقا لا مشكلة بلا حل.

ولنعترف أنه من الجيد أن نخفف من وطأة الموقف علينا بأن نجد فيه بعض الطرافة والفائدة، وننظر فيما يمكن أن نتعلمه من هذه المشكلة ونحن نعمل على مواجهتها وحلها، ونوسع دائرة تعاطفنا وشعورنا بالشفقة تجاه من يعانون من نفس المشكلة، وعلينا دائما أن نعلم بأن المشكلة –أي مشكلة– ليست بهذا القدر من السوء الذي تصوغه أفكارنا إزاءها، وعلينا أن ندرك أن ما يزعجنا أو يخيفنا أو يقلقنا ليس هو أسوأ شيء في الحياة على أية حال،

وعلينا أن نثق في حتمية حل المشكلة وزوالها أيا كانت ومهما كانت تداعياتها، وعلينا أن نثق عموما بأن المشاكل أيا كانت تحل نفسها بنفسها في النهاية على نحو أو آخر ومهما كانت الأضرار التي تترتب عليها. وعلينا التسليم من البداية إلى النهاية بأن كل شيء بإرادة الله الخالق وأنه القادر دوما على مساعدتنا وشمولنا برعايته وفضله.

وهذا الأمر الأخير أيا كانت الديانة التي يؤمن بها الفرد ستجعله أكثر قدرة على التكيف مع أي مشكلة مهما كانت خطورتها وتداعياتها، كما ستجعله أكثر ثقة في أن الله كما ابتلاه بالمشكلة سيساعده على حلها.

إن العقل الإنساني بتأملاته الفلسفية ورحابة الفكر الممكنة لديه يمكنه أن يواجه أي مشكلة ويحلها بشرط أن يتفاعل معها بطريقة إيجابية ولا يستسلم معها للهواجس والمخاوف.

“منقول بإذن من كاتبه”

 

اقرأ أيضاً:

هنا تكمن المشكلة والحل 

أوقات الأزمات وتجلي التفكير العلمي

حقيقة الفلسفة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. مصطفى النشار

رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، ورئيس لجنة الفلسفة بالأعلى للثقافة