مقالات

خسارة مادية ومعنوية

في أي حرب يحتاج البشر إلى غطاء أخلاقي لتبرير الحرب والدمار والخسائر، لا بد من غطاء أخلاقي، دون هذا تنهزم الدول مهما كانت قوية ومهما طالت الحرب، مثلًا: ذهبنا لنشر الحضارة، ذهبنا للقتال لنشر الديمقراطية، إلخ.

غطاء أخلاقي لتغطية ما يحدث من بشاعة وخسائر وتبريرها، ومع هذا الغطاء الأخلاقي لا بد من توافر مصلحة مباشرة واضحة يُروج لها! تحسين في الاقتصاد، تطور سريع في الحياة اليومية واستفادة مباشرة للشعب المحارب، مكاسب مادية. يعني لا بد من مكاسب مادية وأخلاقية كي تنتصر في الحرب!

الأسباب الحقيقية وراء دخول أمريكا الحرب العالمية الثانية

مثلًا: حين ذهبت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب العالمية الثانية، كان عليها إرسال مليارات الدولارات من العتاد والسلاح والتكاليف، ومعهم أكثر من عشرة ملايين أمريكي بعيدًا عن أرضهم وبيوتهم إلى بلاد أوروبا المتحاربة.

لم تقل الحكومة الأمريكية أنها قررت دخول الحرب كي تستولي على ثروات أوروبا وتسيطر عليها، وتصبح الوريث الشرعي للاستعمار البريطاني والفرنسي في السيطرة على العالم!

لكن قالت لهم أنهم ذاهبون إلى الحرب في سبيل الدفاع عن الحرية والديمقراطية، والدفاع عن الوطن الأمريكي، رغم مساندة أمريكا لكثير من الأنظمة الديكتاتورية والظلم والاستعمار والتفرقة العنصرية والاحتلال، فضلًا عن منظومة الرأسمالية غير العادلة، التي تكبت كل من يقف ضدها وتحبسه!

اقرأ أيضاً: هكذا تغير شكل الحلم الأمريكي

تاريخ زائف

بما أن كلمة الوطن الأمريكي كانت في أول القرن العشرين لا تزال غير واضحة، لأنهم كلهم مجموعة من المهاجرين من بلاد مختلفة، جاؤوا للانتفاع، فقد غسلت هيئات التعليم والإعلام مخ الشعب الأمريكي، وجَمَّلت التاريخ الأمريكي، وروَّجت لخرافات أن أمريكا بلاد الأحرار، وتناست أنه بلد مبني على إبادة الهنود الحمر واستعباد السود، وإصدار قوانين تمنع تدريس أي لغة غير الإنجليزية، بعد أن كان المهاجرون الألمان يدرسون ويعيشون حياتهم باللغة الألمانية حتى منتصف القرن العشرين، واختراع رواية واحدة لما يسمى الحلم الأمريكي والشعب الأمريكي والوطن الأمريكي!

المهم أن البروباجندا نجحت في تجييش الشعب الأمريكي، ونجحت أمريكا وانتصرت، وأصبحت أغنى بلد في العالم، واستولت على أوروبا، وورثت الهيمنة الاستعمارية على العالم. يعني مكاسب مادية وأخلاقية.

التدخل الأمريكي في حرب فيتنام

الجامعات الأمريكية

لكن بعدها ببضع سنوات، ذهبت أمريكا للحرب في فيتنام وكوريا، ورفعت الشعار نفسه؛ ذهبت للحرب ضد الشيوعية، ندافع عن الديمقراطية والحرية والعدل!

لكن من تزايد جرائم أمريكا وفضائحها، أصابت الصدمة الشعب الأمريكي، ووجد أنها حرب ضد القيم التي يؤمن بها، وضد المصالح التي ينتظرها، ودخلت الولايات المتحدة الأمريكية في أول أزمة اقتصادية، وأزمة أخلاقية، ورأينا مظاهرات الطلاب في الجامعات ضد حرب فيتنام، وانتهى الأمر بهزيمة الولايات المتحدة الأمريكية.

التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق

في حرب أفغانستان والعراق نجحت الحكومة الأمريكية في الترويج للمبرر الأخلاقي نفسه؛ الدفاع عن الحرية والديمقراطية، وانتشرت بروباجندا التخويف من الإسلام والمسلمين، لكن اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية للانسحاب بسبب الخسائر الاقتصادية، إذ أصبح المبرر الأخلاقي الوهمي أنهم يحاربون المسلمين الأشرار لا يتناسب مع المشكلات الاقتصادية التي دخل فيها الشعب الأمريكي، يعني خسائر مادية وأخلاقية، تساوي هزيمة!

اقرأ عن: انتفاضة الملاكمين

الشباب الأمريكي يدعمون إقامة الدولة الفلسطينية

اليوم في حرب غزة نجد الموضوع نفسه يعانيه الأمريكيون اليهود، يعانون بشدة، أكبر مساند مادي ومعنوي لإسرائيل هم الأمريكيون اليهود.

يحكي فيلم (Israelism) الوثائقي، عن كيف رُسمت صورة مثالية لإسرائيل في عقل الأمريكي اليهودي منذ الطفولة، وتحولت إلى قضية العمر.

منذ الطفولة يحكون له عن أرض بلا شعب ذهب إليها الشعب اليهودي المسكين الذي تعرض للاضطهاد، وأن من يسكن إسرائيل يدافع ضد محيط مخيف من العرب الأشرار الهمج، الذين يرفضون الترحيب بهذا الشعب المتحضر الطيب الذي يبني ويعمر.

زيارة إسرائيل شيء مثير، ومسلٍ جدًا، والحياة في إسرائيل رائعة، وأن تشارك في الجيش الإسرائيلي لتدافع عن أرض إسرائيل ضد العرب الأشرار الهمج مغامرة مثيرة ودائمًا تنتهي بالانتصار، تمامًا مثل رحلة صيد مسلية تتعلم فيها فنون القتال.

لكن مع انتشار أخبار الإبادة الجماعية والفصل العنصري والظلم والعنصرية ضد العرب والمسلمين في فلسطين، بدأت شريحة كبيرة من الشباب ترى صورة لم تكن تعرفها!

لم يكن هؤلاء الشباب يعرفون أنه في فلسطين يوجد شعب فلسطيني، وأنهم يُعاملون بعنصرية بشعة وقتل بلا رحمة، وظهرت إسرائيل أنها تستعمل قوة غاشمة ضد كل ما هو طبيعي وجميل؛ الأطفال، الأسرة، البشر، حتى العرب داخل إسرائيل يعاملون بإذلال يومي ويعيشون في خوف مستمر وكبت وظلم.

حرب غزة تكشف حقيقة أمريكا

الجامعات الأمريكية

بالتدريج أصبحت مساندة إسرائيل بالنسبة إلى كثير من اليهود الأمريكيين مصدر إحراج أمام جيرانهم وزملائهم.

أصبحت فكرة استعطاف العالم بأنهم من ضحايا الهولوكوست تنهار، أمام صورة إسرائيل العنصرية التي ترتكب مذابح التطهير العرقي ضد الفلسطينيين.

أصبحت إسرائيل وجرائمها العنصرية ضد مصالح اليهود الأمريكيين، وتعيق حياتهم اليومية والطرق التي كانوا يكسبون بها التعاطف والمناصب والترقيات.

يعني أصبحت مساندة أمريكا لإسرائيل خسارة مادية ومعنوية، على العكس مثلًا من مساندة أوكرانيا، لا تزال تعد نسبيًا مكسبًا معنويًا لبعض الأمريكيين، لكن خسارة مادية!

اقرأ أيضًا: قضية الشعب الفلسطيني من زاوية ثقافية

الطلبة اليهود في أمريكا يدعمون غزة بقوة

اليوم تحولت إسرائيل بسبب فضيحة جرائمها إلى شيء ضد الشعارات الأخلاقية التي يؤمن بها أي إنسان طبيعي، سواء يهودي أو غير يهودي، وضد المصالح المباشرة للحياة اليومية لكل يهودي يعيش في العالم ويساند أو كان يومًا ما يساند إسرائيل.

هذا ما يفسر مشاركة كثير من طلبة الجامعات الأمريكيين اليهود في المظاهرات ضد جرائم إسرائيل ومطالبتهم بأن تمتنع الولايات المتحدة الأمريكية عن الاستمرار في هذه الجريمة.

اليوم تقول الإحصائيات أن 40% من الشباب اليهود، و20% من كبار السن اليهود يقفون ضد إسرائيل وجرائمها، وهذا ليس بالعدد الكبير، لكنه يتزايد بسرعة كبيرة جدًا، وبالتدريج يتغير المسار والتفكير، واتخاذ القرارات. لأن حرب غزة جعلت العالم يعرف حقائق لم يكن يعلمها كثيرون طوال الـ75 سنة الماضية.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. خالد عماره

الاستاذ الدكتور خالد عماره طبيب جراحة العظام واستاذ جراحة العظام بكلية الطب جامعة عين شمس