العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثامن والثمانون
المدرسة المشّائية: (86) أبو الحسن العامري وكتابه: "الأمد على الأبد": فلسفة الزمان والأبد [3]: الأبد: فلسفة الزمان اللا متناهي

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، عن أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد [2]: فلسفة الزمان المتناهي ونظرية المعرفة.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتنا التأويلية للفيلسوف أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد.
الفلاسفة اليونان الإلهيون: الإقرار بالباري وبالمعاد الأخروي
ثم يعرض أبو الحسن العامري، في الفصل الرابع، من كتابه الأمد على الأبد، أقوال الفلاسفة الإلهيين في الباري وفي المعاد: أنباذوقليس– فيثاغورس– سقراط– أفلاطون– أرسطو.
وبعد أن ينتهي من ذلك العرض المقارن لأقوال الفلاسفة الإلهيين، يقول: “فهذا هو جمل ما تصورناه من مذهب هؤلاء، وتلقفناه من الأئمة المنسوبين إلى الفلسفة. وليست كتبهم المصنفة في هذه الأبواب بحيث يوقف من غير فاتحٍ يفتحها، فإنها محشوةٌ بالرموز والألغاز”.
“ولقد كان أتباع هؤلاء الخمسة، من طبقات اليونانيين الذين سموا حكماء على الإطلاق، يلاحظون عامة من لا يقر (يعترف) بالصانع جل جلاله، ولا يوقن بالثواب الأبدي بعد موته، بعين الزراية والهوان، ويعاملونهم من الاستخفاف بمثل معاملة الموحد للملحد”.
صورتا المثوبة الأبدية: عند الفيلسوف اليوناني والفيلسوف المسلم
ويلاحظ العامري –بدقته المنهجية الفلسفية المقارنة– الفارق الدقيق بين صورة عقائد الموحدين من فلاسفة اليونان، وبين صورة المثوبة الأبدية للبعث، في عقيدة الفيلسوف المسلم الموحد، فيقول:
“إلا أن اعتقادهم (الحكماء الإلهيون من فلاسفة اليونان) كان في صورة المعاد يخالف للملة الحنيفية بنكتةٍ (مسألة) واحدة، وهي: أنهم لم يكونوا يعترفون بالبعث والنشور، لكن كانوا يوجوبون المثوبة الأبدية لمجرد الأرواح البشرية. ولهذا ما حكم الإسلام على جماعتهم بالغي والضلال. فأما إثبات الصانع ووحدانية ذاته، ونفي الأنداد والأضداد عنه، فشيءٌ قد أذعنوا له وأوردوا البراهين عليه”.
لماذا لجأ الفيلسوف المسلم إلى الاستعانة بفلاسفة اليونان؟
في نصٍ نادرٍ، يجيب العامري عن واحدٍ من أدق الأسئلة الذي يمكن لإجابته أن تزيح الستار عن فهم دقيق لهذه الظاهرة الفكرية الحضارية الكبرى: ظاهرة ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية، أعني لماذا استعانت الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية؟
يجيبنا العامري، وهو من القلة النادرة التي قدمت إجابةً عن هذا التساؤل الكبير، قائلًا:
“وإنما أوجبنا أن نصف أحوالهم (يعني الفلاسفة اليونان) على هذا الشرح لأنهم تكلفوا إتقان صناعةٍ يستعان بها في عمارة البلاد وينتفع بها في مصالح العباد، كالطب والهندسة والتنجيم والموسيقى وغيرها. وصنفوا فيها كتبًا معروفةً، فوقعت لها التراجم بالألسنة المفتنة، وارتضاها ذوو الألباب (العقول) من الأمم، وارتفع بمكانها محلهم”.
“ثم وجدنا أوساخ الزنادقة يصطادون بهم (بطعم الفلاسفة ذائعي الصيت والشهرة هؤلاء!) الواحد والواحد من ضعفة العقول، ويستدرجونهم بصيتهم إلى ما تدنسوا به من الخلاعة. بل يوهمون بأن دين الله تعالى، لو كان ذا حقيقةٍ صادقةٍ، لكان أولئك (الفلاسفة العظام المشهورون) مع تكامل عقولهم ووفور أحلامهم أولى بإيثاره والتمسك به”.
إن ما جاء به الفلاسفة اليونان –عند العامري– ناقصٌ ولا بد من إكماله. ولن يستطيع أن يكمله –خصوصًا في مجال الميتافيزيقا، ومسألة المعاد، وخلود الإنسان، وصورة بعثه، ومصيره النهائي– إلا الفيلسوف المسلم وحده: ذلك الفيلسوف الذي هُدِي إلى صراط الله المستقيم، دون أن يحرم من استخدام عقله السليم.
ثنائية الإنسان: قالبٌ ونفس
الإنسان –عند العامري– ذو طبيعةٍ ثنائية، يقول العامري: “وقد خلق الإنسان من جوهرين متباعدين: القالب (الجسم) والنفس. أما النفس “فجوهرٌ سماوي السنخ (الأصل)، ولهذا ما يشتاق عند تكامله بالحكمة إلى العالم العلوي. والآخر –وهو القالب– أرضي السنخ (الأصل)، ولهذا ما يشتاق عند تكدره بالشهوة إلى العالم السفلي”.
“إن الرجل الحكيم غير حريص على اللذات البدنية، كالجماع والأطعمة، والثياب الفاخرة، لذا فإنه “يلتمس بها بالمقدار الذي يضطر إليه. وبالحري (جدير) أن يبعد عن الاهتمام للرئاسة أو للمال، و”إذا أولع باستغزار (بالإفراط) المعلوم أيقن أنه متى حاول ذلك لزمه أن يجرد له الروّية والفكر، وأن يصّير النفس النطقية مباينةً للجسد ولما يتعاطاه الجسد. فهو إذًا يتكلف التبرؤ من الملاذ البدنية كلها، علمًا منه بأنها شاغلةٌ عن مطلوبه، وعائقةٌ عن تحصيل غرضه. فهو إذًا يكون متجردًا في مساعيه لتنحية النفس المضيئة عن البدن المظلم بغاية ما أمكنه واقتدر عليه، مؤملًا به الترقي إلى العالم النوراني الأبدي”.
العناد الذاتي بين النفس والبدن ودور الأمر الإلهي
وإذا كان الإنسان –كما يقول العامري– ثنائي السنخية، فإن مهمة الدين هي مساعدته على أن يعود –باختياره الحر– لسنخه (أصله) الحقيقي النوراني الأبدي. وفي ذلك يقول: “وقد يمكننا أن نخالف بتمييزنا الشهوات التي تقودنا إليها طبيعاتنا. والإنسان ممكّنٌ من تقوية أحدهما على الآخر باختياره. ثم الدين الإلهي معاضدٌ له على إيثار (تفضيل) ما ينال به سلامة النفس عن آفات البدن بقدر الإمكان، حتى لو قيل: لو لم يكن بين البدن والنفس عنادٌ ذاتيٌ لما انطلق على الإنسان الأمر الإلهي”.
النفس النطقية: محل المعقولات المؤبدة
يقول العامري: “إن أفلاطون قد أطلق القول في كتابه المنسوب إلى فاذن (= فيدون) بأن جوهر النفس غير مكوّن”. وقد أفاد العامري من محاورة “فيدون” لأفلاطون، إذ يقول:
“إنا متى شاهدنا خشبتين متساويتين في قدرهما، وحجرين متفاوتين في حجريتهما، حكمنا على الخشبتين بوجود المساواة لهما، وعلى الحجرين بوجود التفاوت فيهما، ثم اعتقدنا مع ذلك أن (مفهوم) المساواة المطلق المعقول عندنا، والتفاوت المطلق المعقول لدينا، مباينان لهذين المشاهدين، بأنّ محلّ المعقولات هو النفس النطقية، ولن ينطلق عليها التغيير البتّة، وأنّ محلّ المشاهدات هو الأجسام الموضوعة، وقد يعرض لها التغيير بالسرعة. فإذًا: أحد المحلين: جوهرٌ جسماني يوقف عليه بالعيان (الحس)، والمحل الآخر: جوهرٌ روحاني، يوقف عليه بالبرهان”.
“وكما أن العاشق إذا رأى صورة معشوقه منقوشةً على الجدار، أو رأى ثوب معشوقه مطرو على إنسان، تذكر بهما المعشوق في الحال، واعتقد أن الصورة شبيهةٌ به إلا أنها أنقص منه، وأن الثوب غير مشبهه، إلا أنه صادر عن بدنه، كذا النفس: إذا اطلعت بواسطة الحس على الخط المستقيم، أو على العدل الحكيم تذكرت العدالة المطلقة، والطول المطلق، والاستقامة المطلقة، وعلمت أن المطّلع عليه يحاكي ما حقّق لديها، إلا أن أحدهما جزئي متبدل والآخر كليٌّ مؤبدٌ”.
النفس الناطقة: الاستقلال الذاتي عن البدن
ويواصل العامري برهانه على استقلال النفس عن البدن، فيقول: “إن الزوج والفرد صورتان (مفهومان) ثابتتان في نفس الإنسان. ولن يوصف العدد الواحد بمجموعهما، وذلك لخاصية تنافيهما بالذات وليس يشك أن شطرًا من العدد يكون له الاشتراك في صورة الزوج، والشطر الآخر يكون له صورة الاشتراك في صورة الفرد، وإذا تقرر هذا فنقول: إن كانت النفس الناطقة جوهرًا ملتحفًا بالبدن كالتحاف النار بالحديدة المحماة، وكانت الروح الحسية ساريةً في البدن كسريان السخونة في الماء الحار، فبالحري أن تكون النفس الناطقة صالحةً لأن تقوم بذاتها دون البدن، وأن تكون الروح الحسية غير صالحة لأن تقوم بذاتها دون البدن”.
الموت: لا يحل بالنفس، لأن محمولاتها كليةٌ أبديةٌ ضروريةٌ
“فأما النفس النطقية لما كانت مستقلةً لأفعالٍ مختصةٍ بها دون البدن، فبالحري أن يكون استحالة البدن عن طبيعة الحيوانية بورود الموت سببًا لتنحيها (فراقها) عنه دون تلاشيها بالذات. ثم لو كانت النفس النطقية، بعد تنحيها (فراقها) عن البدن، معرضةً للفناء والتلاشي، أو غير صالحةٍ للبقاء الأبدي، لما كانت محمولاتها كليةً أبديةً ضروريةً، فإن الانفعال العارض للشيء لن يكون أشرف من حامله. فقد ظهر إذًا: أن النفس الناطقة جوهرٌ صالحٌ للبقاء على الأبد، ولا كذلك الروح الحسية”.
إذا كان وضع النفس الإنسانية الناطقة على هذا النحو –الذي بينه العامري– فإن الخلود جديرٌ بطبيعتها وجوهرها المجرد، وسنخها الإلهي أولى بها أن تعود مكرمةً سعيدةً سعادةً لا نهائية ويكون الدين والأمر الإلهي مرشدها الأمين إلى العودة إلى رحاب باريها تعالى.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع الفيلسوف أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد [4]: المعاد: أبد الزمان اللا متناهي.
مقالات ذات صلة:
الجزء السابع والثمانون من المقال
الجزء السادس والثمانون من المقال
الجزء الخامس والثمانون من المقال
الجزء الرابع والثمانون من المقال
الجزء الثالث والثمانون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا