العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع والثمانون
المدرسة المشّائية: (85) أبو الحسن العامري الفيلسوف وكتابه: "الأمد على الأبد": فلسفة الزمان والأبد [2]: الأمد: فلسفة الزمان المتناهي ونظرية المعرفة

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، عن أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد “: فلسفة الزمان والأبد [1]: مقدمة: الإنسان بين الأمد والأبد.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتنا التأويلية للفيلسوف أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد.
عمر الدنيا: أمد الزمان المتناهي
قبل أن يبدأ العامري بحثه الفلسفي عن الأبد (الخلود في الزمان الذي لا ينتهي) فإنه يبدأ بذكر الأمد (الوجود في الزمان المتناهي) أولًا، فيذكر تاريخ البشر، وفقًا لمعلومات عصره، فيقول:
“وأن نبدأ أولًا بذكر تواريخ الأجيال، فإنه من عظم ما ينتفع به في تحقيق شؤونهم وذكر مراتبهم”.
ثم يذكر العامري ثلاثة أنواع من التقاويم والتواريخ المشهورة: قبله، وفي زمانه:
“إن التواريخ التي يعم استعمالها في التقاويم هي ثلاثة: أولها: تاريخ ذي القرنين (ويسمى التاريخ الرومي)، والثاني: تاريخ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم (ويسمى التاريخ العربي)، والثالث: تاريخ يزدجرد بن شهريار (ويسمى التاريخ الفارسي). وقد استعمل في الزيجات تاريخ بخت نصر، وهو المأخوذ من أول سني ملكه، وبينه وبين مبتدأ تاريخ ذي القرنين أربعمائة وستة وثلاثون سنة”. ثم يذكر تاريخ ذي القرنين وآدم والطوفان، وسليمان بن داوود (ع) والترجمة السبعينية للتوراة، وخروج موسى (ع) ببني إسرائيل وظهور عيسى (ع) وتواريخ اليهود والفرس ومجمل الأحداث الكبرى في العالم إلى زمنه من تواريخ الأمم الماضية وهي ستة: الصين والهند والسودان، والبربر والروم والترك، ثم بلاد إيران وجزيرة العرب، وبلاد اليونان، وبابل”. وهدف العامري أن يعطينا لمحةً تاريخيةً عن فلسفة الزمان المتناهي، فما بدأ لا بد وأن ينتهي يومًا ما، وأن الدنيا المتناهية مقدمةٌ ضروريةٌ للآخرة اللا متناهية، فقبل معرفة الخلود يجب أن نعرف الفناء أولًا، إذ بضدها تتميز الأشياء.
الاختلاف في عمر الدنيا
بعد أن يذكر العامري التواريخ الثلاثة يقول: “وإذا تحقق هذا فنقول: إن عمر الدنيا مختلف فيه”.
الفلسفة: علم العلوم وصناعة الصناعات
بعد أن انتهي العامري من ذكر تواريخ العالم وعمر الدنيا، في قسم الأمد، وقبل أن ننتقل إلى قسم الأبد، يحسن أن نقدم أراءه في الفلسفة ما هي؟ وما أهميتها في إثبات المسائل الوجودية الكبرى المتعلقة بخلود الإنسان ومصيره؟ وما مصادر المعرفة التي يعتمدها العامري أساسًا لفلسفته؟ فالإبيستمولوجيا، أو نظرية المعرفة، هي الإطار الأولي المحدد لكل ميتافيزيقا ولكل فلسفة، لأي فيلسوف كائنًا ما كان وكائنًا ما كانت فلسفته. إن معرفة “مصادر معرفة” الفيلسوف في الأمد تخبرك عن موقفه الميتافيزيقي من الأبد.
يقول العامري –كما ينقل عنه التوحيدي في المقابسات (مقابسة 41): “الفلسفة هي علم العلوم، وصناعة الصناعات، لا تعطيك في موضع الشك اليقين، ولا موضع الظن العلم، وكلها تعطيك في كل شيء ما هو خاصته وحقيقته، إن شكًا فشك، وإن يقينًا فيقين”.
نظرية المعرفة: اختلاف الفلاسفة بخصوص مصادر المعرفة
يحدد العامري –إزاء نظرية المعرفة– أربعة أصنافٍ من مواقف الفلاسفة قائلًا: “وجدنا طبقات الناس يفترقون في أبواب المعارف إلى فرق أربع: (:1 القائلون بالحس وحده) منهم من يدرك أن للمدرك الحسي حقيقة وليس للمتصور العقلي حقيقة، (:2 القائلون بالعقل وحده) ومنهم من يعتقد أن للمتصور العقلي حقيقة وليس للمدرك الحسي حقيقة، (:3 نفاة الحقيقة الحسية والعقلية معًا) ومنهم من ينفي الحقيقة رأسًا للحسيات والعقليات، (:4 مثبتو الحقيقة الحسية والعقلية معًا) ومنهم من يثبت الحقيقة للصنفين جميعًا”.
مصدرا المعرفة: الحس والعقل معًا
ويتبني العامري الموقف الرابع ويقرر: أن مصادر المعرفة هي الحس والعقل معًا: “وليس يشك أن المعاني الحسية ممتنعٌ إدراكها بالعقول الصريحة، ولو أنها كانت تدرك بها لكانت القوى الحسية فضلًا (زيادة) لا يحتاج إليه، وأن المعاني العقلية ممتنعٌ إدراكها بالقوى الحسية، ولو أنها كانت تدرك بها لكانت العقول الصريحة فضلًا (زيادة) لا يحتاج إليه، وأن الصنفين لو كانا منتفيين معًا لكانت الحواس كلها والعقول بأسرها لغوًا وعبثًا. فقد ظهر أن الموافقة للحق من هذه الفرق الأربع، هي: المعرفة بالحقائق للصنفين جميعًا، أعني الحسية والعقلية. ثم النفاة للحقائق كافة –أعني الحسية والعقلية– هم الأبعدون عن الفرقة المحقة، وهم المنسوبون إلى العناد والسفسطة”.
الحسيات: معابر إلى العقليات
ويرى العامري أن الحس معبرٌ وطريقٌ إلى العقل: “إن الحسيات معابر إلى العقليات”. و”في كل محسوس ظلٌ من المعقول، وليس في كل معقول ظلٌ من الحس”. و”الحق أسبق إليك منك إليه”. ويقول التوحيدي: “وكان –يعني العامري– وفيًا بهذا الباب (القول بالحس والعقل معًا) قيمًا (قائمًا) عليه”.
التعقل: لا يكون بالبدن
“قالوا: ولو لم تكن فينا من قوة العرفان بحقائق الموجودات إلا الروح الحسية لكان ما قوي من المعقولات اليقينية يكسبها العجز عن تصور ما ضعف منها، فإن المحسوس الفائق في الحس يورثنا الضعف عن استحسان ما هو دونه في الحس، والطعم البالغ في الحلاوة (من ذاق الحلاوة الشديدة لا يحس بعدها بالضعيفة). ولسنا نجد الأمر كذلك، بل نجده على الضد منه. فإن الأقوى من المتصورات العقلية يكسبنا فضل (زيادة) القوة على ما هو دونه. فإذًا ليس محلّ الصور العقلية هو –بعينه– محلّ الموهمات الحسية، لكنه جوهرٌ آخر غير جسماني”. وهي الفكرة نفسها التي قررها ابن سينا في كتاباته، فابن سينا –رغم نقده للعامري ووصفه له بالفدم (ضعيف الفهم!) وأنه “من أحداث المتفلسفة الإسلامية”!– إلا أنه تأثر به في نظريته في النفس، وبخاصة في استدلاله على طبيعتها الروحية، وخلودها، وتأثر ابن سينا “بفكر” العامري رد عملي على نقد ابن سينا “لشخص” العامري!
العقل: قادرٌ على بحث مسألة المعاد
ويقرر العامري صلاحية العقل وقدرته المعرفية على بحث مسألة المعاد، وفي ذلك يقول: “وفي الجملة هذه المسألة (المعاد) عذراء ضيقة، وعجماء مشكلة، لكن العقل الذي هو خليفة الله يجول في هذه المضايق، ويدفع هذه الموانع والعوائق” (أبو حيان: مقابسة 20).
مصدر معرفةٍ متعالٍ: القوة الإلهية
ويضيف العامري مصدرًا ثالثًا لمصدري المعرفة الحس والعقل وهو مصدر القوة الإلهية المتعالية: “أن العقل وإن صلح لتدبير عامة ما تحته من الموهومات الحسية، ولإمساك ما فوقه كافة من المعقولات البديهية، فإنه ليس يصلح لهما إلا بالقوة الإلهية المستعلية عليه. وكما أن الطبيعة محيطةٌ بالأجسام إحاطة التدبير لها، والعقل محيطٌ بالنفس إحاطة الهداية لها، كذا الأول الحق محيط بالأشياء كلها إحاطة التقدير لها. فإذًا الجسم بجبلّته طائعٌ للطبيعة، والطبيعة بجبلتها طائعةٌ للنفس، والنفس بجبلتها طائعةٌ للعقل، والعقل بجبلته طائعٌ لله تعالى”.
إذا كانت الدنيا متناهيةً والزمان في الأمد متناهيًا، ومصادر المعرفة هي الحس والعقل والخبر الإلهي، بات من الواضح أن العامري سيتخذ من هذه الأدوات المعرفية منطلقًا عقليًا يؤسس عليه فلسفته: في الأبد: فلسفة الزمان اللا متناهي.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع الفيلسوف أبي الحسن العامري وكتابه: “الأمد على الأبد”: فلسفة الزمان والأبد[3]: الأبد: فلسفة الزمان اللا متناهي.
مقالات ذات صلة:
الجزء السادس والثمانون من المقال
الجزء الخامس والثمانون من المقال
الجزء الرابع والثمانون من المقال
الجزء الثالث والثمانون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا