مقالات

للغربة أسباب، تفقد الأحباب والأصحاب والعمر يجري فيها كالسحاب

السبع فوائد: مسافر يتأقلم على الغربة

مر شهر  منذ وصلت إلى تلك المدينة البعيدة عن الوطن، على الجانب الآخر من الكوكب. شهر، أو ثلاثين يوما لكنهم لم يمروا كما تمر الشهور والأيام في وطني الحبيب. سمعت الكثير من الحكاوي وأنا صغير عن السفر والمغامرة والغربة ولكن الشعور مختلف عندما تكون انت المسافر ، ربما أيضا من زملائي قبل أن أصل هنا، كلمات عن أن الزمن هنا له سرعة مختلفة، ما أن يبدأ يومك حتى تجده سرعان ما ينتهي، وقد نعتقد إثر ذلك أن كل شيء أصبح أسرع. في الواقع أن كمية المتغيرات الجديدة التي تدخل حياتك دفعة واحدة هي ما تشعرك بسرعة مرور الوقت.

في مصر كان كل شيء بطيء لأنه روتيني وتقليدي ومعتاد، يشبه الأمر الجلوس دون فعل أي شيء والنظر إلى عقارب الساعة القديمة وهي تدق لتنبئ بمرور ثانية وراء الأخرى. هنا في هذه اللحظة ستشعر أن الثانية دقيقة والدقيقة ساعة. أما لو انهمكت في عمل ما أو لتحقيق هدف معين وسهرت الأيام والليالي لتنجز مهماتك فإنك ستشعر بنفس ذلك الشعور الذي شعرت به هنا على مدار الثلاثين يوما الذين مضوا.

بداية مرارة الغربة

منذ أن وصلت والكثير من “المشاوير” عليّ أن أقوم بها إما منفردا أو مع أحد أصدقائي لكوني انا المسافر . بعضها لتوثيق الأوراق وبعضها لجلب مستلزمات المنزل والآخر للعمل. ثم يأتي وقت الترفيه كمكعب السكر في وسط ملوحة بحر العمل الهائج. ما أن تأتي تلك البرهات حتى تجد نفسك تلتهمها وتحاول الاستمتاع بها قدر الإمكان لأنك تعرف ما سيأتي بعدها. بالفعل لقد اختلف عندي مفهوم العمل والراحة، فأنا لا أعمل لأرتاح ولكن أرتاح كي أستطيع استكمال يوم العمل.

لا يمكنك تحمل مشقة يوم العمل دون تنفيس عن روحك وجسدك. وجدت التنفيس الجسدي في السير لمسافات طويلة مستمتعا بالخضرة الوفيرة والمزارع والحقول. بينما وجدت الراحة النفسية في الصلاة، لم أعد أصليها لأنتهي منها سريعا، فالصلاة لي هي وقت هام جدا للفصل بين مرحلة عمل سابقة ومرحلة جديدة. أحاول التركيز فيها على تفريغ كل قلق وتوتر واستجلاب الطاقة الإيجابية من هذا المصدر العظيم الراقي لكي أستطيع الانتصار على نفسي وترويضها أكثر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا أنسى أن المساء سيأتي، هذا الصديق ثقيل الظل الكئيب، يذكرني المساء بكم وحدتي ومعاناتي منها في هذا السن وفي هذه المرحلة. وإن لم أشغل نفسي بأي شيء لأفعله سأنسحق في دوامات تفكير الليل السوداء التي تسحبك لأسوأ أماكن نفسك لتغرقك في أوهامك وشهواتك وغضبك فتخرج أسوأ مما كنت عليه قبل دخولك هذه المنطقة الخطرة.

أتذكر كلمة قالها لي أحد الحكماء، النفس إن لم تشغلها بالأشياء الجيدة شغلتك بالأشياء السيئة. وجدت سلوتي في التعرف على أنواع “الشوكولاتة” الجديدة التي لم أجربها من قبل، فهي تريح أعصابي وتشعرني بالسعادة. ثم أعود للمنزل مسرعا لتحضير وجبة شهية وخفيفة لأستعيد قوتي قبل أن أخلد للنوم. نوم انتظرته طويلا بعد يوم شاق ومرهق من العمل والسير والتفكير والطبيخ والأكل وغيره. نوم لم أعرف حلاوته في الكسل والراحة التي كنت مبتلًى بها في وطني الحبيب.

فكثرة المتغيرات -كما قلت- تجعل لكل شيء وقتًا ومكانًا وحيزًا لا يعتدى عليه ولا يعتدي على الأحياز الأخرى. إنها فعلا حياة غريبة لم أكن أتخيل أنني سأعايشها هنا. حتى الوقت الذي أكتب فيه هذه المقالة هو وقت استقطعته من وقت العمل بعد أن أنهيت جزءًا من مهماتي كراحة ذهنية قصيرة لأعود لعملي بعدها. كل شيء بحساب كما يقولون.

قالوا في الأمثال قديما سافر فإن في السفر سبع فوائد أو كما قيل في الشعر:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة *** وعلم وآداب وصحــــــــبة ماجد
فإن قيل في الاسفار ذل وغربة *** وقطع فيافٍ وارتكاب الـــــشدائد
فمـــوت الفتى خير له من حياته *** بدار هوان بين واش وحاســـــد

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ربما إذا تخيلنا هذا النمط الجديد السريع للحياة والانضباط القهري الذي تفرضه عليك الظروف وغيرها من المنافع الروحانية والمادية للإنسان، فإن السفر على حق به مغانم كثيرة والغربة تعطي دروساً مختلفة  وشعور المسافر مختلف حقاً.

لكن تساؤلي الأهم هنا، لماذا لا تتوفر هذه الحالة في وطني؟ هل يجب أن أتخبط في الأيام والليالي و الغربة لكي أتعلم كيف أنضبط؟ ألم يكن من الأفضل أن أتعلم وأنا في راحة المنزل وفي القرب من الأحبة والرفقاء؟ يبدو أن الإنسان بالفعل لا يملأ فاه إلا التراب. لم يروقني الوضع في بلدي لكثرة الطلبات وضغوط الحياة التي يجب أن أخوض غمارها لأحقق أهدافي، فكنت أفضل الكسل والتواكل عن السعي والعمل. أما اليوم وأنا في الغربة فأعمل وأبذل جهد لم أكن أتخيل أني بمقدوري أن أبذله ويذهب الكثير منه هباءا لمجرد تخليص ورقة حكومية أو إنهاء مشوار للبنك أو شراء طعام. في أحيان كثيرة وأنا أسير في الليل وأعاني من الوحشة لوطني الحبيب تراود ذهني تلك الأبيات:

وكنت في داري عزيزٍ مكرمٍ *** أنعم بلقيا حبيبٍ وصحبةٍ
فصرت غريبًا في أرضٍ غريبةٍ *** أكابد سهدًا وشوقاً ولوعةٍ

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة