هل التساؤل ترف؟
كيف ستقضي يومك؟
السؤال يبدو بسيطًا ،وإجابته قد تكون محدّدة للكثير بشكل دقيق وربما تفصيلي؛ يعطي انطباعًا عن مدى حرصهم على ترتيب شئون حياتهم وفق نظام معين ،وبطريقة محددة معتمدة على ترتيب أولوياتهم وإدارة أوقاتهم ،فقد يخبرك الكثيرون بأنهم يستيقظون في موعد محدد يوميًا ،ثم يتناولون وجبة الإفطار ،وينطلقون لمكان عملهم. ووقت الراحة والترفيه محدد سلفًا أسبوعيًا، ومكان النزهة في الاعتبار ،والوقت المطلوب قضاؤه مع الأسرة كذلك في جدول أعمالهم، وهكذا..
إلّا أنه ،وبنظرة تشمل مسار حياة الإنسان بشكل عام، قد يغيب ذلك النظام وتلك الرؤية الواضحة عن الصورة في حياة الكثيرين ، فيبدو الإنسان في حياته أو سعيه كمن استقل قطارًا في محطة معينة دون أن يشغل باله كثيرًا باسم المحطة، أو إلى أين ينقله القطار؟! أو أي المحطات هي محطة نزوله؟ وما هدفه أصلًا من ركوب القطار؟! ما الذي دفعه لتلك الخطوة؟! هو فقط منشغل بالتعامل مع التفاصيل التي تعرض له داخل القطار؛ مكان مقعده بداخل القطار، وأين سيضع حقائبه؟ وهل يحتاج للنوم؟ ومع من سوف يتعامل؟ وكيف يكون شكل التعامل؟ وهل عليه تكوين صداقات أم ربما الحذر أفضل؟ وماذا لو احتاج لشراء شيء ما؟ وغيرها الكثير والكثير من التفاصيل.
ذلك الشخص الذي شَغلته تفاصيل الرحلة الجزئية المتغيرة عن الهدف من الرحلة أصلًا، عن وجهتها، عن مبدأها، عن كيفية تقويم الطريق إذا شابه اعوجاج، هل يفيده تركيزه في تفاصيل الرحلة حقًا؟! وهل يضمن له ذلك رحلة موفقة بنهاية يسعد بها؟! وماذا لو فاتته المحطة التي يجب عليه النزول فيها؟! وماذا لو كان قد أخطأ أصلًا في استقلال القطار في المحطة التي بدأ منها؟!،هل ستزيده الرحلة إلا بُعدًا؟!
ذلك هو حال من ترك التساؤل عن المبدأ ،والوجهة ،والطريق وانشغل بتسيير أمور الطريق وتفاصيله، أهمل التساؤل عن مبدأه، كيف استقر به المقام في هذا العالم؟ ومن أين بدأت الرحلة؟ أمن إله وخالق أم من العبث والصدفة والانفجار الكوني؟ وإلى أين ستنتهي؟ أإلى الخالق؟ أم إلى العبث الذي نشأت منه والعدم والفناء والزوال؟ وكيف السبيل لرحلة موفقة؟ أهو بِاتّباع ما أمر به الإله ونهى عنه؟ أم بالسعي في الكون بالهوى ووفق رغبات النفس وما تميل إليه وما تستحسنه؟ أم حسب ما تمليه علينا ضغوطات المجتمع وأعرافه وتقاليده؟ ،أم وفقًا لرغبات رؤسائنا وحكامنا وأهالينا ومن نثق فيهم؟ أم تبعًا لآخر صيحات الموضة العالمية؟ أم حسب ما تحدده سياسات الدول الكبرى وقرارات الأمم المتحدة؟ أي الطرق هو الأفضل؟!
وما هي مجموعة المعايير التي تحكم حياتنا وتحدد وجهتها وعلى أساسها يتم تقويم الطريق إذا حاد عنها؟ وكيف نتعامل مع الأفكار الواردة إلينا والتي يتطلب اعتناقنا لها تغيير شامل في نمط حياتنا حتى لو بالتدريج؟ وفي أي المحطات نحن وإلى أين يقودنا القطار؟ وكيف رتبنا أولوياتنا؟ أي ما هي مجموعة الأفكار التي تدخلت في تشكيل رؤيتنا لذلك الترتيب؟ لماذا نقدم على أي خطوة في حياتنا؟ لماذا نتعلم؟ وعلى أي أساس نختار لأولادنا تلك المدرسة تحديدًا دون غيرها؟ وهل هذا الأساس سليم؟ ما الذي نريده تحديدًا من مجال العمل الذي اخترناه؟ وهل تلك الرغبات تمثل سعادتنا حقًا بل ماذا تعني السعادة؟ ما الذي يجعل للحياة قيمة فعلًا؟ وأي الأمور يستحق بذل الجهد في سبيله؟ وهل أساسنا في اختياره سليم؟ وغيرها الكثير من التساؤلات التي تمثل رؤية الإنسان لنفسه وللعالم من حوله، لمجتمعه ولحياته. تلك الاسئلة التي تجعله على وعي بحركة القطار ،وإلى أين يسير به.
الإنسان -بما يتميز به من عقل ورغبة ملحة في الوصول للكمال والسعادة الحقة- لا يمكنه دفع تلك التساؤلات جانبًا والاستمرار في حياته وكأن شيئًا لم يكن؛ وذلك لأن تلك التساؤلات تتدخل بشكل مباشر في تشكيل حياته وسلوكياته، فأي سلوك اختياري يقوم به الإنسان تسبقه فكرة معينة تجعله يقدم على ذلك الفعل تحديدًا دون غيره، فالذي يستيقظ مبكرًا ليذهب إلى عمله يسبق فعله هذا فكرة قد حدد فيها أهمية الذهاب لعمله الذي قد يكون هو مصدر دخل أسرته، أو أنه عملًا تنمويًا يعود بالنفع على أفراد مجتمعه مثلًا، والتي تقضي وقتًا طويلًا تبحث عن كيفية تربية الأولاد وطرق التعامل معهم، دافعها في ذلك فكرة قد شخصت فيها رغبتها في أن تربي أولادها بطريقة معينة ليكونوا نواة لمجتمع أفضل في تصورها، وهكذا تحكم حياتنا فعليًا مجموعة من الأفكار التي ربما لم ننتبه لمصدرها أو من أين تلقيناها أو كيف شكلناها؟!
تلك الأفكار بعضها يمثل رؤيتنا لأنفسنا ،وللعالم ،ومجموعة المفاهيم الكبرى والتي نستمد منها الخطط العملية لحياتنا، والمنظومات القيمية التي نرتئي لها أن تكون الحاكم لسلوكياتنا وتصرفاتنا، ومن ثم على أساس تلك الرؤى وما تبعها من خطط تكون أفعالنا وسلوكياتنا، فعلى سبيل المثال الذي يشخص السعادة في وفرة المال والرفاهية المادية سوف يسعى حثيثًا لكسب المال سواء بتحري نوع العمل المربح أكثر من غيره، أو استغلال وقته بالطريقة المثلى التي تمكنه من الحصول على أكبر عائد مادي في أقل وقت ممكن؛ مرورًا بعدم تضييع ذلك الوقت مع رفقة من الأصحاب تضّيع عليه فرصة كسب صفقة مربحة، وصولًا إلى اختيار شريك حياة لديه نفس المفهوم عن السعادة يعاونه على تحقيق الرفاه المادي!
نمط الحياة الذي اختاره ذلك الشخص حددته فكرة مسبقة، ومفهوم معين.
فكرتنا وتصورنا ومفهومنا عن الزواج يحدد معايير اختيار شريك الحياة، وشكل الحياة التي نريد بناءها معه، وطريقة تربية الأولاد. مفهومنا عن النجاح في العمل يحدد نوع العمل الذي نختاره، ومدى رغبتنا في إتقانه، وطريقة تعاملنا مع ضغوطات المجتمع الذي ربما يعيق حلم الترقي الوظيفي. مفهومنا عن الصداقة يحدد شكل علاقاتنا بأصدقائنا، ويتدخل في اختيارهم. مفهومنا عن طريقة إدارة الدول يحدد أي الأحزاب سنصوت لها في انتخابات ما. مفهومنا عن الأخلاق يحدد موقعها في حياتنا ومدى تمسكنا بها ،أو اعتبارها مرجعية للسلوك.
وهكذا، سلوكياتنا وتصرفاتنا الاختيارية محكومة بمجموعة من المفاهيم والأفكار التي لا يمكن أن ننشغل بتفاصيل الحياة عن مراجعتها والتساؤل عن كيف أصبحت قاعدة للسلوك ومبدأ له، وكيف كوَّنَّاها.
تلك الحاجة للتوقف والتساؤل عن مغزى الرحلة بشكل عام، وعن مفاهيمنا الحاكمة لحياتنا قد زادت في عصرنا الحالي، عصر التدفق المعلوماتي أو السيل المعلومات؛ فمع الزيادة الرهيبة في وسائط نقل المعلومات والأفكار والتشعب في المفاهيم ونقائضها ،أضحى الإنسان في حاجة ماسة لمراجعة أفكاره والتساؤل عنها، والبحث عن سفينة تقلّه وسط أمواج الأفكار المتلاطمة التي تتقاذفه من كل جانب، في وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي الكتب والمجلات، وفي جلسات الأصدقاء، ومع أسرته، وفي الشارع، وفي المدرسة، وفي العمل، وفي كل مكان. أفكار ترد ومفاهيم تصل للإنسان الذي إن استمر في الانشغال بتفاصيل الرحلة الجزئية عن الرحلة نفسها فلن يزيده السير فيها إلا بعدًا؛ لذا وفي عصر اليوم تحديدًا ليس التساؤل ترفًا أو رفاهية فكرية بل ضرورة مُلحّة وصيحة استغاثة يطلقها إنسان اليوم!
اقرأ أيضاً:
بطاقة هـُوية… الحرية الفكرية وإشكالية التطبيق
الإنسان بين حتمية الخطأ و منطقية التسامح – حول الفرق بين الخطأ والمخطئ
اضرب يلا وفن التربية .. التربية والتعليم وعلاقتهم ببناء الإنسان