قضايا شبابية - مقالاتمقالات

القدوة كيف تعرفها؟ .. الجزء الأول

ليس سهلًا الكتابة عن مواصفات القدوة، خصوصًا في زمن تغيرت فيه كثير من المفاهيم والقيم، بل وصل الأمر إلى صنع قدوة هي على النقيض تمامًا من حقيقة القدوة.

إن الكلام عن القدوة يعني الكلام عن المواصفات والسمات الفكرية العقلانية والأخلاقية والنفسية والسلوكية، التي إن اجتمعت في شخص كان على قدر حمل مسؤولية القدوة.

قيمة القدوة نابع من عمق فكره وأصالته، ومن قوة اعتقاده وثباته وسلامة رؤيته وسلوكه المعبر عن كل هذا.

القدوة يجب أن يملك تجانسًا وهدفًا واضحًا لكي يقتدي به الناس، وهذا بدوره لا بد أن يكون نابعًا من مدرسة فكرية يتبناها القدوة نفسه، وهذا ما سنحاول توضيحه.

العقلانية والموضوعية

إن زماننا زمن انتشر فيه الفكر المادي الاستهلاكي على كل المستويات تقريبًا، والذي بدوره أحدث كثيرًا من الخلل في كل النسق الاجتماعية والعلاقات الشخصية، وترك تأثيرًا سلبيًا واضحًا على اعتقادات الناس ونفوسهم ومعيشتهم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

القدوة الذي نبحث عن سماته في هكذا زمان يجب أن يكون ذا مواصفات خاصة، يمتلك القدرة على التشخيص الدقيق للمشكلات، والقدرة الفائقة على إيجاد الحلول وفق منظور واقعي ومنطقي، يحلل ويرصد ويفكك الضرر الذي أحدثته تلك المادية القبيحة.

يجب أن يمتلك القدوة الحقيقي رؤية نابعة من فكر ينتصر للإنسانية على الحيوانية، وينتصر للثوابت على السيولة، وللأخلاق على التهتك والرذيلة، ينتصر بالعلم على الجهل وبالعدل على الظلم.

بناء على ما سبق تجد أن العقلانية والموضوعية تعد من أهم السمات التي يجب أن يتمتع بها القدوة، بل هي من الأمور الواجب توافرها فيه، وهي تنعكس على اعتقاده ورؤيته.

يدرك أن لهذا الوجود خالقًا

لا يمكن أن نعد شخصًا قدوة وهو لم يدرك أن لهذا الوجود خالقًا ومدبرًا حكيمًا عالمًا.

هذا الخالق هو محور هذا الوجود، خلقنا لكي نتكامل بالعلم والفضيلة، ولهذا الخالق تعاليم يجب الالتزام بها في العلاقات والمعاملات.

لا يمكن أن يكون قد خلق كل هذا العالم البديع وفق نظام دقيق وقوانين ثابتة ويترك الإنسان دون إرشادات وتوجيهات.

إن شخصًا لا يعتقد مثل هكذا اعتقاد لا يمكن عده قدوة يحتذى بها، أما إن لم يكن يدرك تلك القواعد والثوابت فهو على أقل تقدير ليس بعاقل ولا يستطيع حتى المساعدة.

خلو فكره من موانع التفكير

مواصفات القدوةكذلك نجد من سمات القدوة الحقيقي خلو فكره من موانع التفكير مثل المبالغة، فهو يرى الأمور على طبيعتها، لا يبالغ في تقديرها ولا يستهين بنتائجها، بل هو يضعها في موضعها الحق.

كذلك يتجنب الثنائية في غير موضعها، فليست كل الأمور أبيض وأسود، بل هناك كثير من التشابك والتداخل حول كثير من الموضوعات، ونظرًا لما يتمتع به من وعي فهو يجيد التفرقة بين الموضوعات بعضها البعض، يجب أن يكون عادلًا ويضع كل شيء في موضعه الصحيح.

أن يكون مدركًا لخطر الأمراض الباطنية

بالتأكيد يجب أن يكون مدركًا لخطر الأمراض الباطنية، من تعظيم الأنا والعجب والحسد والغضب وقلة التحمل، فتلك الأمراض مهلكة لكل من توطنت فيه، بل يجب عليه التحذير منها والعمل على محاربتها.

يدافع عن المظلومين

القدوة الحقيقي يقدم النموذج العملي للدفاع عن المظلومين قولًا وفعلًا، ورفض كل أنواع الظلم، وبث الأمل والقضاء على الخوف والجهل، ورفض التلاعب بثوابت المجتمع وقيمه وبيان خطورة ذلك.

في نفس الوقت يبين أصالة الفكر السليم والقيم الحقيقية، وإثبات سلامتها وقدرتها على تقديم السعادة والحرية الحقيقية للفرد والمجتمع متى ما تم الالتزام بها وتطبيقها.

اقرأ أيضاً: هل النماذج المنتشرة حالياً تمثل قدوة حقيقية؟

تعرف على: أهمية النخب في المجتمع

اقرأ أيضاً: القيم بين التغير والثبات

يؤمن بالأخلاق

إن مواصفات القدوة في هذا الزمن يجب أن تكون على درجة عالية من الإيمان بقيمة الأخلاق، ودورها المحوري في تحرير الناس من رق الاستعباد النفسي الذي أسست له المادية.

لقد أفرغت المادية روح الإنسان من كل جانب معنوي، ووصفته بالحيوان الراقي، وتعاملت مع العالم أنه غابة البقاء فيها للأقوى، فاستعمر النفوس قبل البلدان.

ذلك يتطلب قدوة واعية بأهمية إحياء الجانب المعنوي للإنسان، والتأكيد على دور التحلي بمكارم الأخلاق، لأنه سبيل أساسي لحل كثير من المشكلات التي نعاني منها اليوم.

لو نظرنا إلى مشكلات الأسرة اليوم لوجدنا أغلبها مشكلات أخلاقية ناتجة عن تغلغل الفكر المادي في حياتنا، فلا تخلو أسرة اليوم من مشاحنات أساسها غياب الوعي بدور الزوج والزوجة الحقيقي داخل الأسرة، نتيجة التأثر بنمط الحياة المادية الغربية، التي أعطت الجانب المادي والنفعي واللذة فقط الأولوية للعلاقة بين الزوجين.

غياب معاني المودة والتراحم والصبر تسبب في تهدم كثير من الأسر اليوم، ومع غياب الأخلاق نتجت كثير من الجرائم البشعة التي يشهدها مجتمعنا اليوم.

لا ريب أن الأخلاق محور أساسي للقدوة الحقيقي في رؤيته وسلوكه.

الشجاعة

مواصفات القدوة

لا شك أن القدوة يجب أن يتمتع بالقدر الكافي من الشجاعة، التي تجعل من مسيره نموذجًا يُحتذى به، في شجاعة الموقف حول القضايا التي يتناولها ويحذر من خطرها.

كثير ممن يظن نفسه على قدر من المعرفة يحيد عن كثير من الموضوعات الشائكة في التشخيص والحل، حفاظًا على سمعته ومراعاة لمشاعر متابعيه.

هذا في الحقيقة أمر خطير يجعل من المفكر غير موضوعي، فهو يخشى على نفسه بالدرجة الأولى، وهذا لا يمكن اعتباره القدوة التي نتكلم عنها.

ذكر لنا التاريخ كثيرًا من النماذج  التي لم تخشَ الاستعمار، على سبيل المثال، وواجهته وحذرت الناس من خطره والدسائس التي يعمل عليها، من تغيير قيم المجتمع وعاداته، سواء في التعليم أو في الملبس أو نمط العلاقات بين الناس، ولم يخشَ هؤلاء النخب من النتائج التي قد تحصل لهم نتيجة تلك المواجهة.

أن يكون انعكاسًا لطبيعة السواد الأعظم

من الأمور الهامة حول القدوة الحقيقي التي نبحث عنها أن يكون انعكاسًا لطبيعة السواد الأعظم وحاله من أبناء مجتمعه.

كثيرًا ما نشهد ونسمع عن الحياة المترفة بدرجة غير طبيعية لكثير ممن يدّعي زيفًا أنه يشعر بالناس، ويقدم لهم النصح والمساعدة، وأنه من المفكرين الذين يجب تقدير كلامهم والعمل به.

حقيقة الأمر أن أغلب هؤلاء لم يدركوا أنهم ليس لهم مصداقية عند الناس، نتيجة رؤية الناس للتناقض الذي يعيشه هؤلاء من قول يخالف الفعل، ودعوات تخالف واقع معيشة من يطلقها.

القدوة الحقيقي يجب أن يجسد في حياته مصداقًا حقيقيًا للإنسان المدرك لحقيقة الحياة، وأن الجانب المادي يجب أن يكون بالقدر الطبيعي، خاصة إن كان يعيش في مجتمع تغلب عليه سمات الفقر والاحتياج.

التاريخ أيضًا أعطى لنا نماذج للقادة الحقيقين، مثلا سقراط وأفلاطون وكثير من الصالحين ممن كانت معيشتهم لا تختلف عن أبناء مجتمعهم، بل كان كثير منهم يعيش حياة أقل من أبسط الناس في زمانه.

إدراك متطلبات الزمان والمكان

يعد ذلك من المؤشرات الهامة على سلامة البصيرة للقدوة الحقيقية، فكثير من حل المشكلات ينتج في المقام الأول من سلامة التشخيص الناتج من سلامة الرؤية لمتطلبات العصر لكن وفق الثوابت والقيم.

هنا يتضح عمق رؤية القدوة الحقيقي وقوتها وسلامتها، فقد يكون تشخيص العمل على التعليم والتعلم وفهم حقيقة الأفكار السامة التي تنتشر في المجتمع أولوية في زمان معين عن العمل الخيري مثلًا.

هذا يكون نابعًا عن دراسة وتشخيص واضح يحدد الأولويات في ذلك الوقت عن باقي الأعمال، التي هي حسنة في ذاتها مثل العمل الخيري، لكن يكون التعلم والرد على شبهات الأفكار المنحرفة هو الأهم في وقت عن وقت آخر.

القدوة الحقيقي يجب أن ينعم بتلك الخاصية والبصيرة، التي تجعله مواكبًا لمتغيرات الزمان والمكان وفق الواقع والأصول المنطقية الواقعية.

الإيمان بالصلاح الداخلي للإنسان

مواصفات القدوةإن كان القدوة لا يؤمن بصلاح الفرد داخليًا ووجود بذرة الفطرة السليمة لكان كل عمله هباءً منثورًا، فكثير ممن يعد نفسه قدة ومن المفكرين لا يؤمن بتلك القضية، مما يجعل عمله مشوبًا بدرجة معينة من اليأس وانعدام التأثير الإيجابي في الناس.

عكس القدوة الحقيقي الذي يبصر الخير في نفوس الناس، ويعلم القدر الحقيقي الذي جعل هذا الخير ملوثًا، والمقدار المطلوب للتخلص منه.

هذا ما يجعله دائم العطاء مرتاح النفس فيما يعمل، مؤمنًا بكرم الله على خلقه ليخرجهم من البؤس والظلم على قدر عملهم، إن اقترن بالعلم الصادق والتوعية الحقيقية.

حراسة القيم والدفاع عنها وتجسيدها

هذا من أهم سمات القدوة الحقيقي، فلا يمكن تصور قدوة بالمعنى الحقيقي للكلمة دون هذه الصفة الأساسية، والتي هي في الأساس ما تعطيه صفة القدوة.

لقد عانى الناس كثيرًا من هؤلاء المزيفين المرتزقة بالقيم، الذين يمارسون الدفاع عنها ما دامت هي عائدة على مصالحهم بالنفع، ويتخلون عنها في الوقت الذي تتعارض فيه القيم مع تلك المصالح الضيقة والشخصية.

للأسف الشديد، ونتيجة الجهل بحقيقة القيم الحسنة وأنها مطلوبة في ذاتها، ظن كثير من الناس أن القيم وما تحمله من معاني غيرُ حقيقية، نتيجة مخالفة تلك القيم واستغلالها من النخب المزيفة.

ما جعل كثيرًا من الناس يرفضونها على اعتبار أنها خداع وكذب، وما ذلك إلا نتيجة ممارسات تلك النخب الزائفة، لذلك فالقدوة الذي نبحث عنه يجب أن يدافع عن تلك القيم الحسنة بتجسيدها وممارستها في حياته العملية.

يتبع

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا