سقراط وتهمة إهانة الآلهة! – الجزء الثاني
في صباح يومٍ ربيعي من سنة 399 قبل الميلاد، استدعت المحكمة الديمقراطية الأولى في قصة البشرية الفيلسوف البالغ من العمر سبعين عامًا إلى قفص الاتهام بتهمتين: الأولى عدم احترام آلهة المدينة التقليدية، والثانية إفساد الشباب وتضليلهم، وبعد محاكمة تردد صداها عبر عصور التاريخ المختلفة، أصدرت هيئة المُحلفين المكونة من زملائه الأثينيين حكمها الصارخ:
الإعدام برعاية الدولة، حيث كان عليه أن يتناول قدرًا كافيًا من سُم الشوكران Hemlock Poison (السام العصبي) ليلقى حتفه في زنزانته! وعلى الرغم من أن فرصة الفرار من السجن قد أتيحت له بمساعدة كثرة من المتعاطفين معه، إلا أنه رفض أن يفعل ذلك؛ كان كعادته يطيع فقط «شيطانه» (الضمير)، ولذا لم يكن الموت أمرًا مخيفًا له.
الإعدام خوفا من حكمته
والحق أنه كما كان لسقراط أتباعٌ مخلصون في المدينة، كان لديه أيضًا كثرة من الأعداء، الذين كانت مصالحهم مهددة بمحاولات الفيلسوف بعث ملكة التفكير لدى الناس من خلال الحوار الفلسفي، أو بالأحرى دفعهم نحو التفكير بأنفسهم، حتى لو حذَّرهم بأن الشيء الوحيد الذي يمكن للمرء أن يكون على يقين منه هو مدى ضآلة معرفته (وهو ما يُعرف بعقيدة الجهل السقراطية)!
لا شك أن «سقراط» كان كبش فداء لخيبة أمل أثينا؛ عندما كانت المدينة قوية كان من الممكن التسامح مع الفيلسوف المارق من أجل الأفضل، لكن الأثينيين –بعد أن اجتاحهم أعداؤهم ونكلوا بهم– اتخذوا وجهة نظر أكثر أصولية، وجهة نظر تضع ديموقراطيتهم ذاتها التي حوكم «سقراط» على هديها موضع تساؤل.
يمكن لنظام الحُكم الواثق من ذاته أن يتلقى النقد بصدرٍ رحب، لكنه يرتعد خوفًا من أية كلمة نقد تُوجه إليه إن كان هشًا! هذا ما حدث بالفعل، لا سيما وأن حكمة «سقراط» الأثيرة “لا تستحق الحياة غير المختبرة أن تُعاش” كانت قد بدأت تؤتي ثمارها قُبيل وأثناء محاكمته.
من جهة أخرى، كان لأفكار «سقراط» تأثيرٌ مذهل على الحضارتين الغربية والشرقية، بل لقد بات واحدًا من أعمدة الحكمة السبعة Seven Pillars of Wisdom في ذاكرة البشرية.
مدى التشابه بين ما عاشه “سقراط” وما نعايشه نحن من مشكلات
إذا نحينا جانبًا مكانته التي لا تتزعزع في قائمة الأسماء الضخمة في مسيرة الحضارة الإنسانية، فإن اهتمامنا بهذا اليوناني الفضولي والذكي المُدان يظل قائمًا ومُلهمًا، ببساطة لأن ما نعيشه ونعايشه اليوم من مشكلاتٍ هو ذاته ما عاشه وعايشه «سقراط»، لقد عاش في دولة مدنية كانت تتغنى بالديموقراطية، وتخدع رعاياها بمجتمع الرفاهية والقوة دون فهمٍ دقيق للعالم ولما يُحدق بها من مخاطر!
واجه «سقراط» –كما يُواجه اليوم أي منتقدٍ ولو كان مُحبًا لوطنه– المحاكمة بالشائعات والتشهير الإعلامي (والقياس مع الفارق)، كما واجه تُهمة الكفر العقلي بآلهة المدينة من البشر!
عندما وقف «سقراط» لمواجهة اتهاماته أمام زملائه المواطنين في الأجورا الأثينية، عبّر عن أسفه البالغ جرَّاء محاكمته قائلاً: “ليست جرائمي هي التي ستدينني.. لكنها الإشاعات Pheme، الثرثرة، حقيقة أنكم من خلال همسكم لبعضكم البعض ستقنعون أنفسكم بأنني مذنب”! إنها الثرثرة التي وصفها الشاعر اليوناني «هزيود» Hesiod بأنها: “شريرة بطبيعتها، يسهل تحريكها على ألسنة الناس، ولكن من المستحيل إخمادها”.
في ضوء هذا الدرس السقراطي، يمكن للمرء أن يصف الفلسفة بأنها ممارسة لا «تكرم آلهة المدينة»، حيث تمثل هذه «الآلهة» كافة الممارسات الأيديولوجية ورموزها وأبواقها الإعلامية التي تحكم الحياة في أي مجتمع، كالكنيسة خلال العصور الوسطى المسيحية، أو الدولة القومية خلال العصر الحديث، أو الشركات في العصر الحالي الذي تُهيمن فيه الرأسمالية النيوليبرالية.
فلاسفة آخرون عوقبوا بتقييد حريتهم
وعلى مدار التاريخ، لم يكن «سقراط» هو الفيلسوف الوحيد الذي دفع ثمنًا باهظًا لاستقلاله الفلسفي في التفكير، هناك مثلا الفيلسوف الإيطالي «جيوردانو برونو» Giordano Bruno الذي عوقب حرقًا في روما سنة 1600 م، لا لشيء سوى لجرأته على الإيحاء بأن الأرض ليست هي الكوكب الوحيد الذي توجد فيه كائنات عاقلة.
كانت حجته بسيطة: “إذا كان الله غير محدود (وفقًا لعقيدة الكنيسة الأرثوذكسية)، وكان سببًا للكون، فمن الضروري إذن ألا يكون الكون متناهيًا، وأن تكون هناك عوالم لا حصر لها ازدهرت فيها الحياة الذكية.”!
ثمة فلاسفة آخرون عوقبوا بتقييد حريتهم على خلفية مواقفهم السياسية، ومن هؤلاء «برتراند رسل» الذي ذاق مرارة السجن مرتين (سنة 1918، وسنة 1961) نتيجة مواقفه المناهضة للتسلح النووي، وما زال نشاطه الهادف إلى إقناع الحكومة البريطانية بالتخلي عن الأسلحة النووية بمثابة منارة للشجاعة الأخلاقية للفلاسفة (أو الفنانين، أو حتى الناس العاديين، فنحن جميعًا في النهاية مجرد بشر، نشعر بأن واجبنا الأخلاقي يُحتم علينا اتخاذ موقف ضد كافة أشكال إساءة استخدام السُلطة)!
على الجانب الآخر “فلاسفة بلا حياء”
لا شك أن ثمة فلاسفة –على الجانب الآخر– قد عمدوا بلا حياء إلى توظيف الفلسفة في خدمة « آلهة المدينة»، هؤلاء هم «فلاسفة التلفاز» TV philosophers، أو هم من أطلق عليهم «آرثر شوبنهور» Arthur Schopenhauer في القرن التاسع عشر لقب «مفكرو الخُبز» Bread Thinkers، الذين يخدعون الرأي العام بتبريراتهم وتسويقهم لأفكار تتفق مع الأيديولوجية السائدة لخدمة مصالحهم الآنية أو لتحقيق مكاسب مادية.
ولو شئنا الدقة لقلنا أن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فلاسفة، بل هم بالأحرى أناسٌ متسلقون متنكرون في صورة فلاسفة. ولا عجب أن يُوصف عصرنا الحالي بأنه «عصر ما بعد الحقيقة» Post Truth، بمعنى أنه نظرًا للتُخمة التي لا يمكن السيطرة عليها من المعلومات التي تُهاجم حواسنا وعقولنا على مدار الساعة، فمن المستحيل التمييز بسهولة بين الحقيقة والوهم، أو بين الأخبار الموثوقة والزائفة.
ومع ذلك فإن كل إنسان –ما زال يتمسك بملكة العقل كسمة أساسية للبشر– بإمكانه ممارسة التفكير الناقد، ومقارنة وجهات النظر المختلفة حول أي موضوع، لكن الأهم من ذلك أن يكون مُسلحًا بالفلسفة كفكر حر ومستقل ينبش في الأسس التي تُبنى عليها المعلومات والأخبار المتدفقة بلا هوادة، متذكرًا دائمًا ملاحظة سقراط التحذيرية القائلة إن الشيء الوحيد الذي نعلمه هو مدى ضآلة معرفتنا، وليتذكر أيضًا مقولة هيراقليطس: “توقع ما هو غير متوقعExpect the Unexpected!”.
اقرأ أيضاً:
مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.