فن وأدب - مقالاتمقالات

رواية “أول النهار”.. مراوحة بين صدمة الواقع وسحر الخيال

ينسج الروائي سعد القرش خيوط أعماله السردية على مهل، وبلا ضجيج، فتستوي على سوقها عفية لافتة، لكن تبقى أكثرها قوة من حيث المعمار الروائي والتخييل واللغة الشاعرية المقتصدة، التي تؤدي الوظيفة بلا إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، ثلاثيته المراوحة بين التاريخي والفانتازيا، والتي وسمها تباعًا بـ”أول النهار” و”ليل أوزير” و”وشم وحيد”، وهي تغطي حكاية قرية مصرية متخيلة منذ القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر، تعلو على كونها مجرد قطعة من الريف المصري الذي سجلته الجغرافيا ورصده التاريخ وصوره علم العمران، إلى كونها دويلة أو “وحدة اجتماعية”.

لكن القرش يتجاوز الرؤية التقليدية التي تطرح “عمدة القرية” معادلًا لـ”رئيس الدولة” و”الخفراء” تعبيرًا عن “جهاز الشرطة” وهكذا، ويجعل القارئ ينغمس في ثنايا العمل متجردًا من هذه الحمولات المستهكلة وتلك المضاهاة المعهودة، ويعيش عالمًا موزعًا بين سحر الخيال وصدمة الواقع، يملأه البطل المستمر “سيد أوزير” والمتحلقون حوله “الأهالي”، وبينهم وبينه مسافات متدرجة من الأحلام والأطماع والنزوات.

في “أول النهار” يرسم ملامح تلك القرية التي أعاد الجد “عمران” بناءها بعد أن جرفها الفيضان، ويعرض في انسياب تاريخ بعض المنسيين والمنفيين في الشوارع الخلفية، وهم يقاومون بطش الحاكم وتوحش الطبيعة، متوسلين بالثقافة الشعبية تارة، وبالفهم الإيجابي للدين الذي يحوله إلى طاقة إيجابية ترفض الخنوع وتمنح الأمل، طورًا.

في “ليل أوزير” ينحرف حكم هذه الوحدة الاجتماعية من العدل إلى الظلم، ومن القسط إلى الجور، وهو ما تبينه عبارة جاءت على لسان منصور، الذي اغتصب السلطة وهمش دور حفيد عمران، وكان ينصح ابنه خليفة قبيل وفاته قائلًا له: “لو مت رد إلى الناس حقوقهم قبل إعلان وفاتي، حتى لا يفترسوك، اعتذر عني، اطلب السماح، فيحسوا أنهم في عهد جديد، فيحبوك ويجتمعوا حولك، وينسوا بدايتك الشؤم”. فبيت عمران الذي كان ملاذًا للعبيد والفلاحين الهاربين من بطش أسيادهم، أخذ في التداعي، بقوة الانحراف عن طريق المؤسس، وسواد النبوءة التي توقعت أن تقع أسرته في حبائل كارثة كل نصف قرن، فجاء الفيضان ثم الطاعون، فالحريق وبعده تفرق الشمل والتيه.

أما في “وشم وحيد” فنحن أمام بطل مجروح بعبء الماضي وفداحة الحاضر معًا، إذ قُتل أبوه في حفر قناة السويس، مع مائة ألف مصري استشهدوا ليفتحوا بابًا للتجارة ولأساطيل الاستعمار، ثم يتركوا ريعًا لأحفادهم. لكن الابن لم يعرف من قتل أباه؟ ولا أين طمروا جثته بين كثبان التراب والرمل، فقرر أن يقتل الخديوِ نفسه، ثم يعود بالجثة بعد أن يجدها إلى أرض الأجداد “أوزير”، لكنه يفشل ويضيع في دروب الحياة القاسية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قراءة هذا العمل الملحمي يمكن أن تذهب بنا نحو الغرق في التفاصيل الدقيقة والاستشهادات المتوالية، سواء التي تستعرض الحكاية المركزية، أو الحكايات الفرعية وأقدار الأبطال وتحولاتهم واللوحات الخلفية واللغة المستعملة في شاعريتها وتقريريتها، لكنني هنا سأنظر إليه كونه بنية متكاملة مركزًا على السمات الشكلية والمضمونية الأساسية له، لا سيما أنه يختلف، مساحة وعمقًا، عن الأعمال السابقة للقرش، وهي روايتي “حديث الجنود” و”باب السفينة”، ومجموعتيه القصصيتين “مرافئ للرحيل” و”شجرة الخلد”. ويمكن ذكر هذه السمات على النحو التالي:

المتصل المنفصل

أول النهار

إذ اتبع القرش تقنية جديدة في ثلاثيته تلك، إذ يمكن قراءة كل جزء منها على أنه وحدة عضوية متماسكة ومتكاملة أو رواية في حد ذاتها، لا سيما أن كلًا منها تأخذ عنوانًا خاصًا، وإن كانت الأولى والثانية بينهما اتصال في العنوان معطوفًا على تعاقب “النهار” و”الليل” ورمزيتهما هنا، فإن الثالثة بعيدة عن هذا تمامًا، إذ لا علاقة بين “الوشم” و”وحيد” بعنواني الجزئين الأول والثاني. وحتى يُحكم هذا الانفصال اتبع القرش طريقة “الفلاش باك” ليعطي كل جزء عمقًا تاريخيًا يستدعيه الأبطال في التذكر أو الحوار أو يطلقه الراوي العليم في فضاء النص، مختزلًا تفاصيل غزيرة في عبارات مكثفة مشحونة بالدلالات والحمولات الآتية من رحم ما مضى. وعلى النقيض إن اتخذنا أسرة عمران الممتدة مدخلًا للتعامل مع هذه الثلاثية سنجد بينها اتصالًا ظاهرًا.

تنعكس هذه التقنية على الوحدات الأصغر التي تشكل كل جزء على حدة، والتي تسلسلت في أرقام متتابعة. ففي بعض المواضع يبدأ الجزء كأنه وحدة قائمة بذاتها، لكن بمضي السرد إلى الأمام يتصل تدريجيًا هذا الجزء بما سبقه ويفتح بابًا لما يأتي بعده.

اقرأ أيضاً: الهامش المنسي والأحلام الغاربة في رواية “كيرياليسون”

العالم الموازي

القرش يختلق من الصفر عالمًا موازيًا ويبنيه في روية، من حيث الأشخاص والبيئة والعلاقات الإنسانية، وهي طريقة رأيناها مع “ملحمة الحرافيش” لنجيب محفوظ، و”أرض النفاق” ليوسف السباعي، و”الخالدية” لمحمد البساطي، و”مدينة اللذة” لعزت القمحاوي، و”مخلفات الزوابع الأخيرة” لجمال ناجي.

لكن هذا الاختلاق لا ينبني على خيال محض، فنجد أنفسنا أمام عالم يحلق في الفراغ، بل يقوم على استعادة واقع لم يعايشه المؤلف بالطبع، لكنه قرأ عنه في أضابير كتب التاريخ، الأمر الذي دفعه إلى أن يقر بالعرفان في نهاية الرواية للمؤرخ الشهير الجبرتي وكذلك ساويرس بن المقفع، ومعهما بعض المؤرخين المعاصرين. فهؤلاء أمدوه بالخيط التاريخي الذي تسري فيه أحداث الرواية، وكذلك بالسياق الاجتماعي الذي جعل المؤلف ملمًا بظروف حياة الناس في عصر المماليك وما تلاه، لهجاتهم وطرائق عيشهم وحدود عالمهم، وفعل هذا باقتدار سواء حين بدأ بعالم الريف الغض على ضفاف النيل، أو في الصحراء وقت حفر قناة السويس، أو في قلب القاهرة حين جاء البطل هاربًا من ملاحقة جنود الخديوِ وعسسه.

 الماضي للحاضر

أول النهار

القرش في جانب من سرده، لا يقصد التاريخ لذاته، فيجعلنا نعيش في حكاية قديمة لا نرى لها صدى أو تجليات أو تمثلات في حياتنا الآنية، بل يوظف التاريخ في خدمة الحاضر، أو هكذا يستهلم القارئ أو الناقد، الذي بوسعه أن يتعامل مع التاريخي على أنه قناع للحديث عن الحاضر، من باب الرمز أو التحايل أو عدم تجنب الوقوع في التوظيف السياسي المباشر والفج. وهذا الاتصال التاريخي يرتبط بوعي الكاتب الحالي من جهة وما حصله عن الماضي من جهة ثانية، ورغم أن الكاتب يتحدث عن بقعة جغرافية ووحدة اجتماعية متخيلة، تحضر مصر السياسية والاجتماعية كاملة في الرواية، فنجدها في أساليب أجهزة الأمن، وطرق الزراعة ونظم التملك وسلوك الفلاحين، والتقويم القبطي، وألوان الحكم وأسماء بعض الحكام، والكفاح ضد الاحتلال الفرنسي، وعلاقة المسلمين والمسيحيين.

المزاوجة بين الشفاهي والكتابي

لغة الحكي في هذه الثلاثية حاضرة بقوة، لا سيما في الحوار (الديالوج)، إذ نجد الأساليب واللهجات المتداولة في الحياة اليومية، والتي تؤدي وظائف مختلفة مثل العظة عبر الحكم والأمثال، والسباب، والتعبير عن الأفراح والأتراح، والتفاؤل والتشاؤم. بل إن المؤلف نجح في مواضع عدة في الرواية أن ينحت كلمات خاصة به، أو يستعيد أخرى مهملة في بطون القواميس ويعيد توظيفها بانسياب، فلا تشكل نتوءات داخل النص، ولا تبدو غريبة لمن يطالعها ضمن سياقها.

استعمال التوالد الحكائي

أول النهار

الراوي يأخذنا أحيانًا في دهاليز جانبية تنبت من الحكاية المركزية، كي يعزز مسار السرد أو يشبعه أو يرممه، ثم يعود إلى المجرى الرئيسي متقدمًا في خط مستقيم، منحازًا إلى حبكة روائية معتادة، لا سيما أنه يتتبع تاريخًا لا يعود إلى الخلف إنما يسير إلى الأمام.

مقالات ذات صلة:

لافندر .. عزة عز الدين

القرية (The village)

الرواية والريف المصري الجديد

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري