قضايا شبابية - مقالاتمقالات

خيانة الأصدقاء

مِنْ أَخْطَرِ مَا يُوَاجِهُ الْمُجْتَمَعَاتِ الْمَادِيَّةَ فِي هَذِي الْأَيَّامِ مَا تَنَاثَرَ شَرَرُهُ، وَعَمَّ بَلَاؤُهُ مِنِ انْتِشَارِ الْخِيَانَةِ بِكَافَّةِ أَشْكَالِهَا، وَتَنوُّعِ حَالَاتِهَا، وَإِنْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ خِيَانَةَ الْأَصْدِقَاءِ هِيَ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي النَّفْسِ، وَيُوْخِزَ الرُّوْحَ.

كُلَّمَا تَذَكَّرْتُ كَيْفَ كُنْتُ أُصَافِحُهُمْ بِحَرَارَةٍ، وَأُعَانِقُهُمْ بِشِدَّةٍ، وَأَحْتَضِنُهُمْ بِصَفَاءٍ، أُدْرِكُ كَمْ كُنْتُ غَافِلًا سَاذَجًا.

هَذِي الْيَدُ الَّتِي كَانَتْ تَمْتَدُّ إِلَيَّ لِتُصَافِحَنِي إِنَّمَا كَانَتْ تَأْخُذُ مِنِّي الْقُوَّةَ، وَتَسْتَمِدُّ مِنِّي الْعَافِيَةَ كِي تَرْتَدَّ إِلَيَّ صَافِعَةً، ضَارِبَةً.

هَذَا الْعِنَاقُ الْحَارُّ لَمْ يَكُنْ إِلَّا وَسِيْلَةً حَقِيْرَةً مِنْهُمْ لِمَعْرِفَةِ مَدَى هَشَاشَةِ بَدَنِي وَمَلَاسَةِ جَسَدِي، وَمَدَى تَمَاسُكِي، وَاخْتِبَارِ ضَعْفِي وَتَنَاسُقِي، بَلْ وَالتَّفْتِيْشِ فِيْهِ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مُدَجَّجًا بِالسِّلَاحِ.

غدر الأصدقاء

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْذُ الْأُهْبَةِ وَالْاسْتِعْدَادُ حِيْنَمَا تَكُوْنُ الْفُرْصَةُ سَانِحَةً لَهُمْ بِالْهُجُوْمِ وَالْانْقِضَاضِ عَلَيَّ فِي الَّلحْظَةِ الْمُوَاتِيَةِ، وَالْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، فَسُحْقًا لَهُمْ، وَتَبًّا لِغَفْلَتِي!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لَقَدْ أَيْقَنْتُ الْآَنَ كَيْفَ كَانُوْا يَتَرَصَّدُوْنَنِي لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا، يَتَعَقَّبُوْنَ خُطُوَاتِي، وَيَتَرَقَّبُوْنَ نَبَضَاتِي.

كُنْتُ أَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُوْنَ ذَلِكَ حُبًّا فيَّ، وَمَخَافَةً عَلَيَّ، وَهُيَامًا فِي شَخْصِي، وَاحْتِرَاقًا فِي رُوْحِي.

بَلْ كُنْتُ أَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَنَّنِي رُبَّمَا أَكُوْن مَعْشُوْقَهُمُ الْأَوْحَدَ إِلَيْهِ يَتَقَرَّبُوْنَ، لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُ كَمْ كَانُوْا يَمْتَحُوْنَ مِنْ مَعِيْنِي، وَيَغْتَرِفُوْن مِنْ بِئْرِي، وَيَتَعَرَّفُوْنَ أُمُوْرِي، وَيَتَحَسَّسُوْنَ نِقَاطَ ضَعْفِي.

حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُمُ الْأَمْرُ، ثُمَّ يَنْتَهِزُوْنَ غِرَّةً، وَحِيْنَهَا وَبِكُلِّ قَسْوَةٍ يَنْقَلِبُوْنَ عَلَيَّ، وَيَنْهَشُوْنَ لَحْمِي، وَيَقْضِمُوْنَ عِظَامِي، وَيُهَشِّمُوْنَ سَلَامِي.

خُصُوْصًا بَعْدَ أَنْ عَرَفُوْا كُلَّ صَغِيْرَةٍ وَكَبِيْرَةٍ عَنِّي، لَقَدْ أَدْرَكْتُ الْآَنَ –وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا– ذَلِكُمُ الْمَثَلَ الْبَلِيْغَ “قَدْ يُؤْتَى الْحَذِرُ مِنْ مَأْمَنِهِ”.

لماذا يغدر الصديق بصديقه؟

خيانة الأصدقاء

لَقَدْ تَبَيَّنْتُ أَنَّ كَلَامَهُمُ الْمَعْسُوْلَ إِنَّمَا هُوَ غِطَاءٌ لِتَدْبِيْرٍ بِلَيْلٍ، وَأَنَّ هَذِي الضَّحِكَةَ الْعَرِيْضَةَ عَلَى مُحَيَّاهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ تُنْبِئُ عَنْ تَكْشِيْرَةِ الْغَدْرِ، وَتَشِي بِابْتِسَامَةِ الْخِيَانَةِ.

إنَّ هَذَا الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ صَدِيْقَ دَرْبِي، وَنَدِيْمَ لُبِّي، وَرَفِيْقَ عُمْرِي لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَدُوًّا فَاجِرًا، وَفَاسِقًا عَاهِرًا، وَخَبِيْثًا دَاعِرًا، وَخَائِنًا كَاسِرًا، وَمُزَيَّفًا وَضِيْعَا، وَسَرَابًا وَضِيْعَا.

يَلْبَسُ مُسُوْحَ الرُّهْبَانِ، وَمَا هُوَ إِلَّا وَغْدٌ وَشَيْطَانٌ، وَمَا هَذَا الْوَجْهُ الْبَرِيْءُ إِلَّا وَجْهُ ذِئْبٍ مُفْتَرِسٍ، وَوَحْشٍ مُنْتَفِشٍ، قَدْ تَسَرْبَلَ بِزِيِّ الْحِمْلَانِ، يَهْتَبِلُ فُرْصَةً كَيْ يَنْقَضَّ عَلَى الْغِزْلَانِ، وَمِنْ ثَمَّةَ يَقْضِي عَلَيْهِمْ قَضَاءً مُبْرَمَا، وَفَنَاءً مُضْرَمَا.

اقرأ أيضاً: الصداقة في الفِكر الصيني

اقرأ أيضاً: كيف يواجه الصديقان مشاكل الحياة؟

اقرأ أيضاً: حين يلتقي الصديقان!

كيفية التعامل مع الصديق الغدار

يَبْقَى السُّؤَالُ الَّذِي يُعَكِّرُ صَفْوِي فِي لَيْلِي وَصَحْوِي، هَلْ كَانَ يَتَوَجَّبُ عَلَيَّ أَنْ أَتَعَامَلَ مَعَهُمْ بِطَبِيْعَتِي وَفِطْرَتِي؟ أَمْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُعَامِلَهُمْ بِطَبِيْعَتِهِمُ الدَّنِسَةِ، وَفِطْرَتِهِمُ الْمُرْتَجِسَةِ؟!

نَعَمْ لَقَدْ كُنْتُ مُخْطِئًا، وَلَا بُدَّ أَنْ أَعْتَرِفَ بِذَلِكَ دُوْنَمَا مُوَارَبَةٍ أَوْ خَجَلٍ، أَوْ مُدَارَاةٍ وَوَجَلٍ، كُنْتُ مُخْطِئًا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَيَّ الْحَذَرُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا بِكَثِيْرٍ.

سُوْءُ الظَّنِّ مِنَ الْفِطَنِ، وَقَدِيْمًا قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: “لَسْتُ بِالْخِبِّ، وَلَا الْخِبُّ يَخْدَعُنِي”.

لَكِنَّنِي خُدِعْتُ، وَخُدِعْتُ كَثِيْرًا، وَلَنْ أُسَامِحَ نَفْسِي مَا حَيِيْتُ!

فَهَلْ كُنْتُ سَاذِجًا حِيْنَمَا تَعَامَلْتُ مَعَهُمْ بِأَخْلَاقِي الْإِسْلَامِيَّةِ السَّامِيَةِ، وَفِطْرَتِي السَّلِيْمَةِ الرَّاقِيَةِ؟! أَمْ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيَّ أَنْ أَتَّشِحَ بِالدَّهَاءِ، وَأَتَسَرْبَلَ بِالْمَكْرِ وَالْخَفَاءِ فِي كُلِّ خُطْوَةٍ أَخْطُوْهَا؟!

أهم دروس الحياة التي لا تقدمها لك المدرسة

خيانة الأصدقاء

لَقَدْ تَيَقَّنْتُ الْآَنَ أَنَّ الْحَيَاةَ لَا تُعْطِي دُرُوْسًا مَجَّانِيَّةً لِأَحَدٍ، فَلَا عَزِيْزَ عِنْدَهَا مَهْمَا كَانَتْ مَكَانَتُهُ، وَعَلَا شَأْنُهُ، وَذَاعَ خَبَرُهُ، وَعَلَا صِيْتُهُ، وَتَنَاءَتْ سَطْوَتُهُ، وَارْتَفَعَتْ رُتْبَتُهُ.

مَا لَمْ يَتَسَلَّحْ بِأَسْلِحَتِهَا، وَيَتَعَرَّفْ قَوَانِيْنَهَا، وَيَقِفْ عَلَى مُتَغَيِّرِهَا وَيَقِيْنِهَا، وَيُدْرِكْ، مِنْ ثَمَّ، نَوَامِيْسَهَا، وَيَخْبُرْ أُسُسَهَا، وَيَتَمَثَّلْ قَوَامِيْسَهَا.

فَهَلْ كُنْتُ غَافِلًا سَاذِجًا حِيْنَمَا أَدَرْتُ لَهُمْ ظَهْرِي مُطْمَئِنًّا؟! وَأَنَا وَاثِقٌ أَنَّهُمْ سَيَحْمُوْنَنِي، فَإِذَا بِهِمْ، وَيَا لَغَفْلَتِي! أَوَّلُ مَنْ يَنْقَضُّ عَلَيَّ، وَفِي مُقَدِّمَةِ مَنْ يُسَارِعُ فِي إِيْذَائِي، وَيَنْهَشُ أَعْضَائِي، وَيَأْكُلُ لَحْمِي، وَيَلُوْكُ عَظْمِي.

أَسْئِلَةٌ كَثِيْرَةٌ تَتْرَى، وَتَتَوَالَى عَلَى ذِهْنِي، وَفِي مُخَيِّلَتِي، لَا تَكُفُّ عَنِ الْمُطَارَدَةِ، وَلَا تَهْدَأُ عَنِ الْإِلْحَاحِ دُوْنَمَا مُوَارَبَةٍ.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

 

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب