أنا رجل متعلم
التعليم رحلة ممتعة، وأهم ما فيها أن تفتح عيون المتعلم على النور والضياء والقدرة على تمييز الأشياء، والتعرف على المعاني واكتشاف الحقائق.
أهم ما يمكن أن يتعلمه إنسان في رأيي من رحلة تعليمه أيًا كان تخصصه طرق البحث، وكيفية البحث عن معرفة حقيقية، والفرق بينها وبين المعرفة الزائفة.
لذا كان البحث العلمي ومناهج البحث العلمي تقريبًا يدرسها كل المتعلمين في الجامعة في مقرر واحد على الأقل، وذلك ليكتسب الطالب القدرة على تتبع الأدلة للوصول إلى الحقائق.
ما أريد أن أنبهك إليه –عزيزي القارئ– لماذا تتضمن نقاشات المتعلمين في الحياة جملة “أنا رجل متعلم”؟
لماذا نضطر إلى تأكيد أننا متعلمون؟ ولم نستخدم هذه الجملة في نقاشاتنا كأنها حجة أو دليل على صدق كلامنا؟
في الحقيقة نحن في حاجة إلى مراجعة هذا الأمر من زاويتين:
الأولى: معنى كلمة متعلم.
الثانية: ما نوع التعلم الذي تعلمته وعلاقته بالنقاش الذي تريد أن تستعمل فيه هذه الحجة؟
ما هو تعريف المتعلم؟
التعليم كما مررتُ به وربما يشاركني بعض القراء لا يخلو من مشكلات عدة، تجعل نوعية التعليم في مصر مثيرة للحيرة حين يصف الشخص نفسه بالمتعلم، كمية المعلومات التي تعلمها، وقدرته على فهمها، واستيعابها وتوظيفها، وكذلك مبادئ العلوم من لغة ورياضيات وتاريخ وتربية دينية وجغرافيا إلخ، التي يدرسها في الثانوية العامة أو الأزهرية.
الكلية وما يمر به الطالب من مقررات بعضها مقرر وبعضها محذوف وبعضها قراءة لأن الوقت لم يسعف الأستاذ لشرحه إلخ. إضافة إلى من يدرسون ما لا يحبون ويبذلون أقل القليل في تحصيل معرفة حقيقية كافية لتربية شخصية المتعلم الحقيقي.
هذه مشكلات لا يمكن لنا إغفالها، لأننا إذا رجعنا بأذهاننا إلى الوراء منذ أن عرفنا حروف اللغة العربية رائعة الجمال والبهاء، فتدبرنا معرفتنا بمبادئ العلوم المتنوعة التي درسناها إلى الثانوية وما حصلناه منها بعمق، وليس من أجل الامتحان فقط، ثم الجامعة وما بذلناه من جهد لتعليم صحيح وبناء قادر على أن يجعل قولنا “أنا رجل متعلم” ليس ادعاء مبالغًا فيه بعيدًا عن صناعة العلم والمعرفة، العلم الذي هو “إدراك الشيء على ما هو عليه”، أي على حقيقته، وقيل: “صفة راسخة يُدْرَك بها الكليات والجزئيات”، فتأمل كلمة “صفة راسخة”، فالمطلوب أن تتحول طرق الوصول إلى المعلومات والتأكد منها ومن صحتها صفة لدى المتعلم، وليس النقل فقط.
آداب المتعلم في رحلة التعلم
أما الزاوية الثانية فالأمر فيها أوضح، فإنه من الواضحات التي يكون التأكيد عليها تكرارًا أن المتخصص في علم لا يعني أنه يستطيع إطلاق الأحكام في علم آخر، فالمتخصص في اللغة أو أحد فروعها لا يمكنه إبداء رأيه في الاقتصاد إذا قصد به رأيًا علميًا اقتصاديًا، والطبيب لا يمكنه بناء برج سكني، والمعلم لا يمكنه إصلاح سيارة إلخ.
فثبت مما قدمته أن جملة أنا متعلم، تحتاج منا أن نتواضع ونحن نطلقها، وأن نعرف أن رحلة التعلُّم الحقيقية تجعل صاحبها أكثر إدراكًا لأهمية ترك الأمر لأهله واحترام ذلك، وأننا لا يمكن أن نستند إلى الحصول على شهادة جامعية في حسم نقاشنا مع الآخرين، وكأن هذه الشهادة شهادة بجميع العلوم.
إننا يجب أن نضبط فهمنا لأنه ينبني عليه توجهنا في الحياة، وإن من الأمور التي أصبحت مثيرة للقلق غياب المعنى الحقيقي للشيء، ووجود معانٍ مزيفة أو غير معبرة عن الوجه الحقيقي للكلمات، فالمتعلم لا بد أن يمر بتجربة تعليمية جادة، وينبغي أن يدرك أنها ليست صَكًّا لأن يدرك كل شيء في الحياة.
التواضع من أخلاق العلماء
يقول السيوطي المتوفى 911هـ: “ورزقت التبحُّر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، على طريقة العرب والبلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي، فضلا عمن هو دونهم، وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده عن ذهني، وإذا نظرت في مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلًا أحمله”، “حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة” (1/ 338).
فإذا كانت هذه كلمات عالم كالسيوطي، تبحَّر (لاحظ جيدًا كلمة التبحُّر) في علوم العربية والشريعة المتنوعة، ثم يعترف بأن الحساب عسير عليه، فعلينا نحن أيضًا أن نتدبر معنى كوننا متعلمين، وكذلك ما يترتب على ذلك من توجهاتنا في الحياة، حتى لا تفقد كلماتنا معانيها الحقيقية، وتلك قضية أخرى هامة جدًا.
مقالات ذات صلة:
نحو معايير قومية لجودة التعليم والتعلم الإلكتروني
المجتمع المدني العربي والتعليم بين الواقع والمأمول
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا