أصنام هذا الزمان!
كان العربي قبل الإسلام يتفنن في صناعة الأصنام –كآلهة له– من مواد مختلفة، فقد يكون الصنم مثلا من ذهبٍ أو برونز، تقديرًا لعلو شأنه والتضحية من أجله بالنفيس من المعادن، وقد يكون من الحجر، تعبيرًا عن قوة بأسه وشدة بطشه، وقد يكون كذلك من البلح (العجوة)، بحيث يجمع بين كونه إلهًا يُعبد وكونه طعامًا يُؤكل تلبية لنداء البطن حين يعتصرها الجوع!
لم يكن العربي في جاهليته يفكر فيما إذا كانت هذه الأصنام التي صنعها وشكَّلها بيديه بإمكانها منطقيًا أن تنفع أو تضر، ولم يكن يشغل باله بما إذا كانت –كمواد جامدة– بإمكانها أن تسمع أو تستجيب لتضرعاته ونجواه، بل كان همّه الأكبر منصبًا فحسب على وجود صنم عيني أمامه يعبده أو يقربه إلى الله زلفى؛ يؤنس وحدته على الأرض في هذا الكون الموحش، ويلوذ به فرارًا من كوارث الدنيا وتقلباتها، وفوق ذلك يُشبع (ولو زيفًا) حاجاته الوجدانية إلى من يلقى عليه بتبعة تحقيق ما عجزت عنه قواه وإمكاناته، ويجد في التقرب له أو به مواساته عما أخفق فيه أو تكاسل عنه أو أسرف فيه أو ارتكبه من جرائم.
وجاء الإسلام ليُرسي في نفوس معتنقيه عقيدة التوحيد، ويهدم بمعاول الإيمان أصنامًا أقيمت وعُبدت جهلًا وظلمًا وعدوانًا، ويعيد إلى العقل والكرامة الإنسانية مكانهما الطبيعي في كل موضع تطأه أقدام البشر.
لم تنتهي ثقافة الجاهلية بعد
لكن يبدو أن العربي –رغم ثبات هويته الإسلامية– لم يتخلص تمامًا من ثقافته الجاهلية في صناعة الأصنام ، بل إن هذه الثقافة لتتجلى بوضوح في ممارساته كموروث جمعي رسخته بداخله الحضارات الوثنية القديمة بآلهتها الزائفة. حقًا لقد تخلص من تلك الأوثان الجامدة التي كان يزين بها قبلته، لكنه استبدل بها بشرًا من بني جلدته لا يملكون له أو لأنفسهم شيئًا.
الصنم البديل في حياة العربي هو صاحب المنصب (أيًا كان موقعه)، أو الداعية، أو الفنان، أو العالم، أو رجل المال، إلخ، الذي يرفعه الناس مكانة تعلو به فوق إمكاناته، ويصطفون جلوسًا حول موائده في انتظار الغث من عطاياه، فتعلو به ظنونه الكاذبة إلى مصاف الآلهة.
لكن أخطرهم جميعًا هو المدير صاحب المنصب الإداري (كبُر هذا المنصب أو صغُر)، الذي ما إن يجلس على كرسيه حتى يتزلف إليه المنافقون، ويسبح بحمده المنتفعون، وتهلل له وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة ليل نهار، وما إن يخرج علينا متحدثًا حتى ينهض المحللون لاستخراج لآلئ الحكمة من كلماته حتى لكأنها تحمل جوهر الحكمة الثابت في قرطاس الأبدية، وينشط الخبراء في تحليل ما تنطوي عليه عباراته من تشريعات تستعصي على عقول البشرية، ويحتشد القوم للاحتفال والاستمتاع بطلعته البهية.
خُلق التأله
حينئذ تتحقق فيه مقولة ابن خلدون: “وإذا تعين له ذلك.. يجيء خُلق التأله الذي في طباع البشر.. فيجدع حينئذ أنوف العصبيات –الأحزاب والجماعات بلغة العصر– ويكبح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم.. وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر ناقةً ولا جملا، فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته فيه”.
بعبارة أخرى يظن صاحب المنصب الإداري وقتئذ أن كرسيه قد وسع سماوات قومه أو عشيرته أو موظفيه وأرضهم، فكأنه يحيي فيهم ويميت، يعطي ويمنع، يثيب ويعاقب، ويُعز ويُذل!
نحن الذين صنعنا هؤلاء كآلهة تظن لنفسها الخلود، كأصنام نمارس أمامها طقوسنا الزائفة –طوعًا أو كرهًا– من تهليل وتسبيح وسجود، بنفاقنا وتزلفنا وجهلنا، وبما لم يأمرنا به رب الوجود.
وأخشى أننا ما زلنا حتى الآن نعمد إلى صنع أصنام جديدة، نبحث جاهدين عن آلهة باعثة تقود مسيرتنا في شتى المجالات من أصغرها إلى أكبرها، وتنعم علينا بما عجزت عنه قريحتنا.
وكم من مشتاق للتأله ليبسط سلطانه على الآخرين.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.