مقالاتفن وأدب - مقالات

في سبع سنين (الجزء الثاني)، النظام والوحدانية

تناولنا في المقال السابق من هذه السلسلة انتشار الإلحاد، ثم قمنا بالبدء في بحث عقلي يضع الإلحاد في ميزان العقل، فوجدنا أن النظام الموجود في الكون يحتم وجود منظم أو مسبب أول للكون يتصف بالعلم والإرادة والقدرة والحياة، ويمكن العودة للمقال السابق للاطلاع على ما فات من البحث، لكن هل يمكن أن يدل نظام الكون على وحدانية المسبب الأول أيضًا؟

وحدة النظام:

كون النظام واحدًا ملاحظ على كل المستويات أيضًا، مثلما كان النظام نفسه ملاحظًا على كل المستويات، فالإنسان البسيط يلاحظ أن النظام الحاكم للأيام والسنين والفصول واحد وثابت، وكذلك النظام الحاكم للمزروعات ونموها، وللحيوانات وتكاثرها، وهكذا، فهو نظام واحد لا يفسد ولا يتبدل ولا يتغير.

والعالم التجريبي يلاحظ أن التفاعلات الكيميائية تطبق على المواد في المعمل كما تطبق عليها في باطن الشمس، فاندماج ذرتي هيدروجين يؤدي إلى نفس النتيجة هناك في باطن الشمس وهنا في التجارب على الأرض.

وقوانين مرور الجزئيات من غشاء الخلية تطبق على أية خلية مهما كانت، وهي قوانين ثابتة، فالمواد الكيميائية من حيث خصائصها هذه يجب أن تتفاعل بهذه الطرق، وهكذا.

بينما يلاحظ الفيلسوف أن النظام الحاكم للوجود واحد، فالموجودات كلها بلا استثناء يستحيل أن تجتمع مع نقائضها أي أن توجد ولا توجد معًا في نفس الوقت ونفس المكان ومن نفس الجهة، والموجودات المعلولة كلها لها علة أي أن لكل حادث أو تغير أو نتيجة سبب،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ويستحيل تصور أو تخيل معلول –شيء يتوقف وجوده على شيء غيره- بدون أن يتوقف وجوده على شيء غيره! فهذا النظام وهذه القوانين مطلقة وشاملة لكل وجود ولكل شيء! بل الوجود -بمعنى تحقق الأشياء في الخارج- واحد أصلا، فتحقق الأشياء ووجودها هو تحققها ووجودها لا غير.

وحدة النظام تدل على أن المنظم واحد:

من الأمور الواضحة والبديهية للجميع هي أن وحدة الفعل تدل على أن الفاعل واحد، فمثلا إذا كان هناك رجلان مختلفان وقاما بتحريك يديهما معًا في نفس الوقت وبنفس الطريقة وفي نفس الاتجاه فإن حركتهما ستظل حركتين مختلفتين ليدين مختلفتين من جسمين مختلفين لرجلين مختلفين!

مهما كان هناك تناغم وتناسق وتوافق بينهما، ولكي تصبح حركة واحدة لا بد أن يكون هناك رجل واحد فقط يحرك يدًا واحدة فقط! وهكذا. وبالتالي فالفعل الواحد يصدر دائما عن ذات واحدة لا غير.

والإنسان البسيط يعبر عن هذا المعنى بمقولات بسيطة مثل أن السفينة ذات القبطانين تغرق، والمدينة ذات الرئيسين تهلك، ولا يستقيم في أي منهما نظام، فالنظام الواحد يستلزم وجود منظم واحد.

والعالم التجريبي في المعمل يعلم أن شحنة كهربائية سالبة واحدة تدل على إلكترون واحد، ولو كان هناك إلكترونان مرصودان لرصدنا شحنتين لا واحدة، وهكذا.

والفيلسوف يعلم أن المعلول مجرد أثر للعلة، والنتيجة مجرد أثر للسبب وطبيعته، فوحدة النظام تدل على وحدة المنظم.

النتيجة:

إذن يجب أن يكون منظم الكون واحدًا، فثبت وحدانية المنظم.

احتمالية تعدد المنظمين:

إذن تبطل وتستحيل احتمالية تعدد المنظمين، لكن يمكن أن نفرض أن هناك أكثر من منظم ثم نحاول أن نرى كيف سيكون شكل الكون حينها.

لو كان هناك أكثر من منظم لكان لكل منهم ذات مختلفة وبالتالي أفعال مختلفة كما سبق. ولو كان لكل منهم فعل مختلف فهناك احتمالان، الاحتمال الأول أن يكون لكل منهم كون مختلف ومخلوقات مختلفة ذات نظام مختلف، وهذا الاحتمال باطل لأننا وجدنا أن النظام ينطبق على كل وجود بشكل مطلق، وأن الوجود نفسه واحد كما سبق.

والاحتمال الثاني أن يكون لهم جميعًا كون واحد لكن لكل منهم نظام مختلف يطبقه في هذا الكون، فيفسد النظام المشاهد في الكون أو يتبدل أو يتعدد وهذا باطل ولا يحدث، بل ويستحيل عقلا لأن النظام العقلي المكتشف ينطبق على كل شيء كما سبق.

ولو تعلقت إرادة أحدهم بشيء والآخر بخلافه واجتمعت إرادتهما معا لأدى ذلك لاجتماع الشيء ونقيضه وهو محال كما سبق. فالمنظم إذن واحد، أي يتصف بالوحدانية، ويشهد بذلك نظام الكون الواحد.

برهان النظام:

هكذا تناولنا برهانا واحدا من براهين وجود الإله وهو برهان النظام، ونلخصه هنا مع نتائجه بشكل بسيط:

الكون به نظام واحد، النظام الواحد يحتاج منظم عالم مريد قادر حي واحد، إذن الكون له منظم عالم مريد قادر حي وواحد.

لكن هل هناك براهين أخرى على وجود المسبب الأول وعلى بعض صفاته أيضًا؟ قد نتناول هذا في مقالات أخرى إن شاء الله.

اقرأ أيضاً:

الحق سينتصر رغم انتشار الباطل – وسنن التاريخ لا تدعو لليأس

كيف نرفض ما يحدث في الواقع دون أن ننفصل عنه ؟

الله خلق آدم على صورته … كيف يكون الإنسان إلهي؟

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا